قوله تعالى : { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم } ، يروى أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفرا ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون بالباطل . قال الله تعالى : { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } ، لن نصدقكم ، { قد نبأنا الله من أخباركم } ، فيما سلف ، { وسيرى الله عملكم ورسوله } ، في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ؟ { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } .
{ 94 - 96 ْ } { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ْ }
لما ذكر تخلف المنافقين الأغنياء ، وأنهم لا عذر لهم ، أخبر أنهم س { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ْ } من غزاتكم .
{ قُلْ ْ } لهم { لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ْ } أي : لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب .
{ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ْ } وهو الصادق في قيله ، فلم يبق للاعتذار فائدة ، لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر اللّه عنهم ، ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي هو أعلى مراتب الصدق .
{ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ْ } في الدنيا ، لأن العمل هو ميزان الصدق من الكذب ، وأما مجرد الأقوال ، فلا دلالة فيها على شيء من ذلك .
{ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ْ } الذي لا تخفى عليه خافية ، { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ } من خير وشر ، ويجازيكم بعدله أو بفضله ، من غير أن يظلمكم مثقال ذرة .
واعلم أن المسيء المذنب له ثلاث حالات : إما [ أن ] يقبل قوله وعذره ، ظاهرا وباطنا ، ويعفى عنه بحيث يبقى كأنه لم يذنب . فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين ، أن عذرهم غير مقبول ، وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة ، وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على ذنبهم ، وإما أن يعرض عنهم ، ولا يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية ، وهذه الحال الثالثة هي التي أمر اللّه بها في حق المنافقين ، ولهذا قال :
ويمضى السياق يصف حال هؤلاء الأغنياء القادرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف . .
إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة ، سقوط الهمة ، وذلة النفس ، وانحناء الهامة ، والتهرب من المواجهة والمصارحة :
( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ) . .
وهذا من إنباء اللّه لرسوله - [ ص ] - وللمؤمنين الخلص بما سيكون من أمر هؤلاء المتخلفين من المنافقين بعد الرجوع من الغزوة . مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة وقبل الوصول إلى المدينة .
يعتذرون إليكم عن تخلفهم وقعودهم ، ذلك أنهم يخجلون من الظهور بفعلتهم هذه عارية ، ومن الكشف عن أسبابها الحقيقية ؛ وهي ضعف الإيمان ، وإيثار السلامة ، والإشفاق من الجهاد !
قل : لا تعتذروا . لا نؤمن لكم . قد نبأنا اللّه من أخباركم !
قل : وفروا عليكم معاذيركم . فلن نطمئن إليكم ، ولن نصدقكم ، ولن نأخذ بظاهر إسلامكم كما كنا نفعل . ذلك أن اللّه قد كشف لنا حقيقتكم ، وما تنطوي عليه صدوركم ؛ وقص علينا دوافع أعمالكم ؛ وحدثنا عن حالكم ، فلم تعد مستورة لا نرى إلا ظاهرها كما كنا من قبل معكم .
والتعبير عن عدم التصديق والثقة والائتمان والاطمئنان بقوله تعالى : ( لن نؤمن لكم )ذو دلالة خاصة .
فالإيمان تصديق وثقة وائتمان واطمئنان . تصديق بالقول وائتمان بالعقل واطمئنان بالقلب ، وثقة من المؤمن بربه ، وثقة متبادلة بينه وبين المؤمنين معه . وللتعبير القرآني دائماً دلالته وايحاؤه .
قل : لا تعتذروا . فلا جدوى للقول ولا معول على الكلام . ولكن اعملوا فإن صدق عملكم ما تقولون فذاك ، وإلا فلا ثقة بالقول ولا ائتمان ولا اطمئنان :
( وسيرى اللّه عملكم ورسوله ) . .
واللّه لا تخفى عليه الأعمال ولا النوايا المخبوءة وراءها ؛ ورسول اللّه - [ ص ] - سيزن قولكم بعملكم . وعلى أساسه سيكون التعامل معكم في المجتمع المسلم .
ولن ينتهي الأمر - على كل حال - بما يجري في هذه الأرض في فترة الحياة الدنيا . فوراء ذلك حساب وجزاء ، يقومان على علم اللّه المطلق بالظواهر والسرائر :
( ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
والغيب ما غاب عن الناس علمه ، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه . واللّه سبحانه عالم الغيب والشهادة بهذا المعنى . وبمعنى أشمل وأكبر . فهو سبحانه يعلم ما في هذا العالم المشهود ويعلم ما وراءه من العوالم المغيبة . . وفي قوله تعالى لأولئك المخاطبي : ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) . . إيماءة مقصودة . فهم يعلمون ما كانوا يعملون . ولكن اللّه - سبحانه - أعلم منهم بها حتى لينبئهم هو بها ! وكم من دافع خفي للعمل يخفى حتى على صاحبه وهو يفعله ، واللّه أعلم به منه ! وكم من نتيجة لهذا العمل لا يدري صاحبه وقوعها ، واللّه يعلمها دون صاحبها ! . . والمقصود - بطبيعة الحال - هو نتيجة الإنباء . وهي الحساب والجزاء الحق على الأعمال . ولكن هذه النتيجة لا ينص عليها ، إنما ينص على الإنباء ذاته لمناسبة هذه الإيماءة في هذا السياق .
أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم ، { قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ } أي : لن نصدقكم ، { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي : قد أعلمنا الله أحوالكم ، { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي : سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا ، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }{[13789]} أي : فيخبركم بأعمالكم ، خيرها وشرها ، ويجزيكم عليها .
{ يعتذرون إليكم } في التخلف . { إذا رجعتم إليهم } من هذه السفرة . { قل لا تعتذروا } بالمعاذير الكاذبة لأنه : { لن نؤمن لكم } لن نصدقكم لأنه : { قد نبأنا الله من أخباركم } أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد . { وسيرى الله عملكم ورسوله } أتتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة . { ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة } أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم . { فينبّئكم بما كنتم تعملون } بالتوبيخ والعقاب عليه .
قوله : { يعتذرون إليكم } الآية ، هذه المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وشرك معه المسلمون في بعض لأن المنافقين كانوا يعتذرون أيضاً إلى المؤمنين ولأن أنباء الله أيضاً تحصل للمؤمنين وقوله : { رجعتم } يريد من غزوة تبوك ، وقوله : { لن نؤمن لكم }{[5837]} معناه لن نصدقكم ، ولكن لفظة { نؤمن } تتصل بلام أحياناً كما تقدم في قوله { يؤمن للمؤمنين }{[5838]} ، و «نبأ » في هذه الآية قيل هي بمعنى عرف لا تحتاج إلى أكثر من مفعولين ، فالضمير مفعول أول ، وقوله { من أخباركم } مفعول ثان على مذهب أبي الحسن في زيادة { من } في الواجب ، فالتقدير قد نبأنا الله أخباركم ، وهو على مذهب سيبويه نعت لمحذوف هو المفعول الثاني تقديره قد نبأنا الله جلية من أخباركم ، وقيل «نبأ » بمعنى أعلم يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل ، فالضمير واحد و { من أخباركم } ثان حسب ما تقدم من القولين ، والثالث محذوف يدل الكلام عليه ، تقديره قد نبأنا الله من أخباركم كذباً أو نحوه .
وحذف هذا المفعول مع الدلالة عليه جائز بخلاف الاقتصار ، وذلك أن الاقتصار إنما يجوز إما على المفعول الأول ويسقط الاثنان إذ هما الابتداء والخبر ، وإما على الاثنين الأخيرين ويسقط الأول ، وإما أن يقتصر على المفعولين الأولين ويسقط الثالث دون دلالة عليه ، فذلك لا يجوز ، ويجوز حذفه مع الدلالة عليه والإشارة بقوله : { قد نبأنا الله } إلى قوله { ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة }{[5839]} ونحو هذا ، وقوله { وسيرى الله } توعد معناه وسيراه في حال وجوده ويقع الجزاء منه عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وقوله { ثم تردون إلى عالم الغيب } يريد البعث من القبور ، و { الغيب } والشهادة يعمان جميع الأشياء وقوله : { فينبئكم } معناه التخويف ممن لا تخفى عليه خافية .