قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } ، والمراد بالبحر جميع المياه ، قال عمر رضي الله عنه : ( صيده ما اصطيد ، وطعامه ما رمي به ) . وعن ابن عباس وابن عمر ، وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتاً . وقال قوم : هو المالح منه ، وهو قول ابن جبير ، وعكرمة ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، والنخعي . وقال مجاهد : صيده طريه ، وطعامه مالحه ، ( متاعاً لكم ) أي : منفعة لكم ، ( وللسيارة ) يعني : المارة ، وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره . أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) فلا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر ، أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك . أما غير السمك فقسمان : قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ، فلا يحل أكله ، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح ، فاختلف القول فيه ، فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك ، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، وذهب قوم إلى أن ميت الماء كلها حلال ، لأن كلها سمك ، وإن اختلفت صورتها ، كالجريث يقال له حبة الماء ، وهو على شكل الحية ، وأكله مباح بالاتفاق ، وهو قول عمر ، وأبي بسر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وبه قال شريح ، والحسن ، وعطاء ، وهو قول مالك ، وظاهر مذهب الشافعي ، وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، ومالا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء ، والخنزير ، والحمار ، ونحوها . وقال الأوزاعي : كل شيء عيشه في الماء فهو حلال ، قيل : فالتمساح ؟ قال نعم ، وقال الشعبي : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ، وقال سفيان الثوري : أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس ، وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن صفوان بن سليمان ، عن سعيد ابن سلمة من آل بني الأزرق ، أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره ، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب في البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسدد ، أنا يحيى ، عن ابن جريج ، أخبرني عمر أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول : غزوت جيش الخبط ، وأمر أبو عبيدة ، فجعنا جوعاً شديدا ، فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله ، يقال له العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر ، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه ، فمر الراكب تحته . وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول : قال أبو عبيدة : كلوا ، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : كلوا رزقا أخرجه الله إليكم ، أطعمونا إن كان معكم ، فأتاه بعضهم بشيء منه فأكله .
قوله تعلى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون } ، صيد البحر حلال للمحرم ، كما هو حلال لغير المحرم . أما صيد البر فحرام على المحرم في الحرم ، والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله ، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ، ويحرم أخذه وقتله ، ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل ، كالمتولد بين الذئب والظبي ، لا يحل أكله ، ويجب بقتله الجزاء على المحرم ، لأن فيه جزاء من الصيد .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد لله بن عمر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ) .
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقتل المحرم السبع العادي ) .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس قتلهن حلال في الحرم : الحية ، والعقرب ، والحدأة ، والفأرة ، والكلب العقور ) .
وقال سفيان بن عيينة : الكلب العقور كل سبع يعقر ، ومثله عن مالك رحمه الله ، وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه كالفهد ، والنمر ، والخنزير ، ونحوها . إلا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا عليها الذئب ، فلم يوجبوا فيه الكفارة ، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه ، لأن الحديث يشتمل على أعيان : بعضها سباع ضارية ، وبعضها هوام قاتلة ، وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام ، وإنما هي حيوان مستخبث اللحم ، وتحريم الأكل يجمع الكل ، فاعتبره ورتب الحكم عليه .
ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري ، استثنى تعالى الصيد البحري فقال : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } أي : أحل لكم -في حال إحرامكم- صيد البحر ، وهو الحي من حيواناته ، وطعامه ، وهو الميت منها ، فدل ذلك على حل ميتة البحر . { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أي : الفائدة في إباحته لكم أنه لأجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم . { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } ويؤخذ من لفظ " الصيد " أنه لا بد أن يكون وحشيا ، لأن الإنسي ليس بصيد . ومأكولا ، فإن غير المأكول لا يصاد ولا يطلق عليه اسم الصيد . { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : اتقوه بفعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، واستعينوا على تقواه بعلمكم أنكم إليه تحشرون . فيجازيكم ، هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل ، أم لم تقوموا بها فيعاقبكم ؟ .
ذلك شأن صيد البر . فأما صيد البحر فهو حلال في الحل والإحرام :
( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) . .
فحيوان البحر حلال صيده وحلال أكله للمحرم ولغير المحرم سواء . . ولما ذكر حل صيد البحر وطعامة ، عاد فذكر حرمة صيد البر للمحرم :
( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا ) . .
والذي عليه الإجماع هو حرمة صيد البر للمحرم . ولكن هناك خلاف حول تناول المحرم له إذا صاده غير المحرم . كما أن هناك خلافا حول المعنى بالصيد . وهل هو خاص بالحيوان الذي يصاد عادة . أم النهي شامل لكل حيوان ، ولو لم يكن مما يصاد ومما لا يطلق عليه لفظ الصيد .
ويختم هذا التحليل وهذا التحريم باستجاشة مشاعر التقوى في الضمير ؛ والتذكير بالحشر إلى الله والحساب : ( واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) . . وبعد . ففيم هذه الحرمات ؟
قال ابن أبي طلحة ، عن{[10402]} ابن عباس - في رواية عنه - وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم في قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } يعني : ما يصطاد منه طريًا { وَطَعَامُهُ } ما يتزود منه مليحًا يابسًا .
وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه : صيده ما أخذ منه حيًا { وَطَعَامُهُ } ما لفظه ميتًا .
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو ، وأبي أيوب الأنصاري ، رضي الله عنهم . وعكرمة ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وإبراهيم النخَعي ، والحسن البصري .
قال سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن أبي بكر الصديق أنه قال : { وَطَعَامُهُ } كل ما فيه . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سِمَاك قال : حُدِّثتُ عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } وطعامه ما قذف .
قال : وحدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مِجْلَز ، عن ابن عباس في قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال { وَطَعَامُهُ } ما قذف .
وقال عكرمة ، عن ابن عباس قال : { وَطَعَامُهُ } ما لفظ من ميتة . ورواه ابن جرير أيضًا .
وقال سعيد بن المسيب : طعامه ما لفظه حيًا ، أو حسر عنه فمات . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب ، عن نافع ؛ أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال : إن البحر قد قذف حيتانًا كثيرًا مَيْتًا أفنأكله ؟ فقال : لا تأكلوه . فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة ، فأتى هذه الآية { وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } فقال : اذهب فقل له فليأكله ، فإنه طعامه .
وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه ، قال : وقد روي في ذلك خبر ، وإن بعضهم يرويه موقوفًا . {[10403]}
حدثنا هَنَّاد بن السُّرِّي قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } قال : طعامه ما لفظه ميتا " .
ثم قال : وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة :{[10404]}
حدثنا هناد ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة في قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال : طعامه : ما لفظه ميتًا .
وقوله : { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أي : منفعة وقُوتًا لكم أيها المخاطبون { وَلِلسَّيَّارَةِ } وهو جمع سيَّار . قال عكرمة : لمن كان بحضرة البحر وللسيارة : السَفْر . {[10405]}
وقال غيره : الطريّ منه لمن يصطاده من حاضرة البحر ، و { طَعَامُهُ } ما مات فيه أو اصطيد منه ومُلِّح وَقُدِّدَ زادًا للمسافرين والنائين عن البحر .
وقد روي نحوه عن ابن عباس ، ومجاهد ، والسُّدِّي وغيرهم . وقد استدل جمهور العلماء على حل ميتة البحر بهذه الآية الكريمة ، وبما رواه الإمام مالك بن أنس ، عن وَهْبِ بن كَيْسَان ، عن جابر بن عبد الله قال : بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قِبَل الساحل ، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة ، قال : وأنا فيهم . قال : فخرجنا ، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجُمع ذلك كله ، فكان مَزْوَدَيْ تمر ، قال : فكان يُقَوِّتُنَا كل يوم قليلا قليلا حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة . فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : فقد وجدنا فقدها حين فنيت ، قال : ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظَّرِب ، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة . ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ، ثم أمر براحلة فرحلت ، ومرت تحتهما فلم تصبهما . {[10406]}
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين{[10407]} وله طرق عن جابر .
وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير ، عن جابر : فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها : العنبر قال : قال أبو عبيدة : مَيْتة ، ثم قال : لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا قال : فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا . ولقد رأيتُنا نغترف من وَقْب عينه بالقلال الدهن ، ونقتطع منه الفِدْر كالثور ، أو : كقَدْر الثور ، قال : ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وَقْب عينه ، وأخذ ضِلْعًا من أضلاعه فأقامها ، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها ، وتزودنا من لحمه وشائق . فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكرنا ذلك له ، فقال : " هو رزق أخرجه الله لكم ، هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ " قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله . وفي بعض روايات مسلم : أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة . فقال بعضهم : هي واقعة أخرى ، وقال بعضهم : بل هي قضية واحدة ، ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة ، فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة ، والله أعلم . {[10408]}
وقال مالك ، عن صفوان بن سُلَيم ، عن سعيد بن سَلَمة - من آل ابن الأزرق : أن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني عبد الدار - أخبره ، أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطَّهُور ماؤه الحِلّ ميتته " .
وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأهل السنن الأربعة ، وصححه البخاري ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حِبَّان ، وغيرهم . وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[10409]} بنحوه .
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق ، عن حماد بن سلمة : حدثنا أبو المُهَزّم - هو يزيد بن سفيان - سمعت أبا هريرة يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج - أو عمرة - فاستقبلنا رِجْل جَراد ، فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن ، فأسقط في أيدينا ، فقلنا : ما نصنع ونحن محرمون ؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا بأس بصيد البحر " {[10410]}
أبو المُهَزّم ضعيف ، والله أعلم .
وقال ابن ماجه : حدثنا هارون بن عبد الله الحَمَّال ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زياد بن عبد الله عن عُلاثة ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جابر وأنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال : " اللهم أهْلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسدْ بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء " . فقال خالد : يا رسول الله ، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال : " إن الجراد نَثْرَة الحوت في البحر " . قال هاشم : قال زياد : فحدثني من رأى الحوت ينثره . تفرد به ابن ماجه . {[10411]}
وقد روى الشافعي ، عن سعيد ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم .
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ، ولم يستثن من ذلك شيئًا . وقد تقدم عن الصديق أنه قال : { طَعَامُهُ } كل ما فيه .
وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها ؛ لما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن قتل الضفدع " . {[10412]}
وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع ، وقال : نَقِيقُها تسبيح . {[10413]}
وقال آخرون : يؤكل من صيد البحر السمك ، ولا يؤكل الضفدع . واختلفوا فيما سواهما ، فقيل : يؤكل سائر ذلك ، وقيل : لا يؤكل . وقيل : ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر ، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل . وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي ، رحمه الله .
قال أبو حنيفة ، رحمه الله : لا يؤكل ما مات في البحر ، كما لا يؤكل ما مات في البر ؛ لعموم قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] .
وقد ورد حديث بنحو ذلك ، فقال ابن مردويه :
حدثنا عبد الباقي - هو ابن قانع - حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِيّ وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا حدثنا الحسين بن زيد الطحان ، حدثنا حفص بن غِياث ، عن ابن أبي ذئب ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما صِدْتُموه وهو حي فمات فكلوه ، وما ألقى البحر ميتًا طافيًا فلا تأكلوه " .
ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية ، ويحيى بن أبي أُنَيْسَة ، عن أبي الزبير عن جابر به . وهو منكر . {[10414]}
وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، بحديث " العَنْبَر " المتقدم ذكره ، وبحديث : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ، وقد تقدم أيضًا .
وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحِلَّت لنا ميتتان ودَمَان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " .
ورواه أحمد وابن ماجه ، والدارقطني والبيهقي . وله شواهد ، وروي{[10415]} موقوفًا ، والله أعلم .
وقوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } أي : في حال إحرامكم يحرم{[10416]} عليكم الاصطياد . ففيه دلالة على تحريم ذلك{[10417]} فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدًا أثمَ وغَرم ، أو مخطئًا غرم وحرم عليه أكله ؛ لأنه في حقه كالميتة ، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي - في أحد قوليه - وبه يقول عطاء ، والقاسم ، وسالم ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وغيرهم . فإن أكله أو شيئًا منه ، فهل يلزمه جزاء ؟ فيه قولان للعلماء :
أحدهما : نعم ، قال عبد الرزاق ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، قال : إن ذبحه ثم أكله فكفارتان ، وإليه ذهب طائفة .
والثاني : لا جزاء عليه بأكله . نص عليه مالك بن أنس .
قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار ، وجمهور العلماء . ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ثم وطئ ثم وطئ قبل أن يحد ، فإنما عليه حد واحد . {[10418]}
وقال أبو حنيفة : عليه قيمة ما أكل .
وقال أبو ثور : إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه ، وحلال أكل ذلك الصيد ، إلا أنني أكرهه للذي قتله ، للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صَيْد البَرِّ لكم حلال ، ما لم تُصِيدوه
وهذا الحديث سيأتي بيانه . وقوله بإباحته للقاتل غريب ، وأما لغيره ففيه خلاف . قد ذكرنا المنع عمن تقدم . وقال آخرون . بإباحته لغير القاتل ، سواء المحرمون والمحلون ؛ لهذا الحديث . والله أعلم .
وأما إذا صاد{[10419]} حَلال صيدًا فأهداه إلى محرم ، فقد ذهب{[10420]} ذاهبون إلى إباحته مطلقًا ، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده لأجله أم لا . حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر ، عن عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، والزبير بن العوام ، وكعب الأحبار ، ومجاهد وعطاء - في رواية - وسعيد بن جبير . قال : وبه قال الكوفيون .
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا بِشْر بن المفضل ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن سعيد بن المسيب حدثه ، عن أبى هريرة ؛ أنه سئل عن لحم صيد صاده حَلال ، أيأكله المحرم ؟ قال : فأفتاهم بأكله . ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره ، فقال : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك .
وقال آخرون : لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية ، ومنعوا من ذلك مطلقًا ؛ لعموم هذه الآية الكريمة .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس وعبد الكريم بن أبي أميَّة ، عن طاوس ، عن ابن عباس ؛ أنه كره أكل لحم الصيد للمحرم . وقال : هي مبهمة . يعني قوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .
قال : وأخبرني معمر ، عن الزهري ، عن ابن عمر ؛ أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال .
قال معمر : وأخبرني أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثله .
قال ابن عبد البر : وبه قال طاوس ، وجابر بن زيد ، وإليه ذهب الثوري ، وإسحاق بن راهويه - في رواية - وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب ، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال .
وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - في رواية - والجمهور : إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد ، لم يجز للمحرم أكله ؛ لحديث الصعب بن جثامة : أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا ، وهو بالأبواء - أو : بوَدّان - فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : " إنا لم نرُدَّه عليك إلا أنّا حُرُم " .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، وله ألفاظ كثيرة{[10421]} قالوا : فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله ، فرده لذلك . فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه ؛ لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وَحْش ، كان حلالا لم يحرم ، وكان أصحابه محرمين ، فتوقفوا في أكله . ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هل كان منكم أحد أشار إليها ، أو أعان في قتلها ؟ " قالوا : لا . قال : " فكلوا " . وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه القصة ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة . {[10422]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال قتيبة في حديثه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول : " صيد البر لكم حلال - قال سعيد : وأنتم حرم - ما لم تُصِيدوه أو يُصَدْ لكم " .
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي جميعًا ، عن قتيبة . وقال الترمذي : لا نعرف للمطلب سماعًا من جابر . {[10423]}
ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، من طريق عمرو بن أبي عمرو ، عن مولاه المطلب ، عن جابر ثم قال : وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس .
وقال مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : رأيت عثمان بن عفان بالعَرْج ، وهو محرم في يوم صائف ، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ، ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه : كلوا ، فقالوا : أوَلا تأكل أنت ؟ فقال : إني لست كهيئتكم ، إنما صيد من أجلي . {[10424]} {[10425]}
{ أحل لكم صيد البحر } ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء وهو حلال كله لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . وقال أبو حنيفة لا يحل منه إلا السمك . وقيل يحل السمك وما يؤكل نظيره في البر . { وطعامه } ما قذفه أو نضب عنه . وقيل الضمير للصيد وطعامه أكله . { متاعا لكم } تمتيعا لكم نصب على الغرض . { وللسيارة } أي ولسيارتكم يتزودونه قديدا . { وحرم عليكم صيد البر } أي ما صيد فيه ، أو الصيد فيه فعلى الأول يحرم على المحرم أيضا ما صاده الحلال وإن لم يكن له فيه مدخل ، والجمهور على حله لقوله عليه الصلاة والسلام " لحم الصيد حلال لكم ، ما لم تصطادوه أو يصد لكم " { ما دمتم حرما } أي محرمين وقرئ بكسر الدال من دام يدام . { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } .