الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (96)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

(أُحلَّ لكم صيدُ البحر): السمك الطري، وشيءٌ يفرخ في الماء، لا يفرخ في غيره، فهو للمُحرِم حلال، ثم قال: (وطعامه): مليح السمك، (متاعا لكم): منافع لكم، يعني للمقيم، (وللسَّيَّارة): للمسافر، (وحُرِّم عليكم صيدُ البر ما دمتم حرما): ما دمتم مُحرِمين، (واتقوا الله)، ولا تستحلوا الصيد في الإحرام، ثم حذَّرهم قتل الصيد، فقال سبحانه: (الذي إليه تحشرون) في الآخرة، فيجزيكم بأعمالكم...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

صيده: ما اصطيد، وطعامه: ما لفظ...

وإذا أكل ذلك ميتا، فلا يضره من صاده.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: أُحِلّ لَكُمْ أيها المؤمنون صَيْدُ البَحْرِ وهو ما صيد طريّاً... وعنى بالبحر في هذا الموضع: الأنهار كلها والعرب تسمي الأنهار بحارا، كما قال تعالى ذكره:"ظَهَرَ الفَسادُ في البَرّ والبَحْر".

فتأويل الكلام: أحلّ لكم أيها المؤمنون طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حلكم وحرمكم، وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رمي به إلى ساحله.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "وَطَعامُهُ"؛

فقال بعضهم: عُني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتا... وقال آخرون: عني بقوله: "وَطَعامُهُ": المليح من السمك. فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحلّ لكم سمك البحر ومليحه في كلّ حال، إحلالكم وإحرامكم.

عن سعيد بن المسيب:"وَطَعامُهُ مَتاعا لَكُمْ "قال: طعامه: ما تزوّدت مملوحا في سفرك.

وقال آخرون:"طَعَامُهُ ": ما فيه. عن عكرمة: "وَطَعامُهُ مَتاعا لَكُمْ "قال: ما جاء به البحر بوجه.

وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، قول من قال: "طعامه ": ما قذفه البحر أو حسر عنه فوجد ميتا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكر قبله صيد الذي يصاد، فقال:"أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ "فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يصد منه، فقال: أحلّ لكم صيدُ ما صدتموه من البحر وما لم تصيدوه منه. وأما المليح، فإنه ما كان منه ملّح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله:"أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ "فلا وجه لتكريره، إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم عباده تعالى إحلاله ما صيد من البحر بقوله" أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ "فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك: ومليحه الذي صيد حلال لكم، لأن ما صيد منه فقد بين تحليله طريا كان أو مليحا بقوله:"أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ "والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة.

"مَتاعا لَكُمْ وللسّيّارَةِ": مَتاعا لَكُمْ: منفعة لمن كان منكم مقيما أو حاضرا في بلده يستمتع بأكله وينتفع به. "وللسّيّارة": ومنفعة أيضا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحا. والسيّارة: جمع سيّار.

" وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرّ ما دُمْتُمْ حُرُما ": وحرّم عليكم أيها المؤمنون صيد البرّ ما دمتم حرما، يقول: ما كنتم محرمين لم تحلوا من إحرامكم.

ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرّ"؛

فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرّم علينا كلّ معاني صيد البرّ من اصطياد وأكل وقتل وبيع وشراء وإمساك وتملك.

وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله:"وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرّ ما دُمْتُمْ حُرُما "ما استحدث المحرم صيده في حال إحرامه أو ذبحه، أو أستحدث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال فلا بأس بأكله للمحرم، وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه فغير محرّم عليه إمساكه.

وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله:"وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرّ ما دُمْتُمْ حُرُما "وحرّمَ عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله بعد أن يكون ملكه إياه على غير وجه الاصطياد له وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني.

والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى عمّ تحريم كلّ معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه من غير أن يخصّ من ذلك شيئا دون شيء، فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حراما: بيعه وشراؤه واصطياده وقتله وغير ذلك من معانيه، إلاّ أن يجده مذبوحا قد ذبحه حلال لحلال، فيحلّ له حينئذٍ أكله، للثابت من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:

حدثناه يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج. وحدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الملك بن جريج، قال: أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان، قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدي لنا طائر، فمنا من أكل ومنا من تورّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وافق من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما رُوي عن الصعب بن جثامة: أنه أَهْدَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمار وحش يقطر دما، فردّه فقال: «إنّا حُرُمٌ». وفيما رُوِي عن عائشة: «أن وشيقة ظبي أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فردّها»، وما أشبه ذلك من الأخبار؟ قيل: إنه ليس في واحد من هذه الأخبار التي جاءت بهذا المعنى بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ من ذلك ما ردّ وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه، وهو حلال لحلال، ثم أهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام فردّه، وقال: إنه لا يحلّ لنا لأنا حرم وإنما ذكر فيه أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد فردّه، وقد يجوز أن يكون ردّه ذلك من أجل أن ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وقد بين خبر جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَحْمُ صَيْدِ البَرّ للمُحْرِمِ حَلاَلٌ، إلاّ ما صَادَهُ أوْ صِيدَ لَهُ». معنى ذلك كله. فإذْ كان كلا الخبرين صحيحا مخرجهما، فواجب التصديق بهما وتوجيه كل واحد منهما إلى الصحيح من وجه، وأن يقال ردّه ما ردّ من ذلك من أجل أنه كان صيد من أجله، وإذنه في كل ما أذن في أكله منه من أجل أنه لم يكن صيد لمحرم ولا صاده محرم، فيصحّ معنى الخبرين كليهما.

واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله:"وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرّ ما دُمْتُمْ حُرُما"؛

فقال بعضهم: صيد البرّ: كلّ ما كان يعيش في البرّ والبحر وإنما صيد البحر ما كان يعيش في الماء دون البرّ ويأوي إليه. وقال بعضهم: صيد البرّ ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر.

" وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ": وهذا تقدّم من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه، يقول تعالى: واخشوا الله أيها الناس، واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم صلى الله عليه وسلم من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وعن إصابة صيد البرّ وقتله في حال إحرامكم، وفي غيرها، فإن الله مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم إياه، ومجازيكم فمثيبكم على طاعتكم له.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{صَيْدُ البحر} مصيدات البحر مما يؤكل وما لا يؤكل {وَطَعَامُهُ} وما يطعم من صيده والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة. وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه {متاعا لَّكُمْ} مفعول له، أي أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{واتقوا الله الذي إليه تحشرون} هذا فيه تنبيه وتهديد وجاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر إذ فيه يظهر من أطاع وعصى.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} ويؤخذ من لفظ "الصيد "أنه لا بد أن يكون وحشيا، لأن الإنسي ليس بصيد. ومأكولا، فإن غير المأكول لا يصاد ولا يطلق عليه اسم الصيد...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني نشأ عن قوله: {يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] فإنّه اقتضى تحريم قتل الصيد على المحرم وجعل جزاء فعله هدي مثل ما قتَل من النعم، فكان السامع بحيث يسأل عن صيد البحر لأنّ أخذه لا يسمّى في العرف قتلاً، وليس لما يصاد منه مثل من النعم ولكنّه قد يشكّ لعلّ الله أراد القتل بمعنى التسبّب في الموت، وأراد بالمثل من النعم المقاربَ في الحجم والمقدار، فبيّن الله للناس حكم صيد البحر وأبقاه على الإباحة، لأنّ صيد البحر ليس من حيوان الحرم، إذ ليس في شيء من أرض الحرم بحر. وقد بينّا عند قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] أنّ أصل الحكمة في حرمة الصيد على المحرم هي حفظ حرمة الكعبة وحرمها.

ومعنى {أحلّ لكم صيد البحر} إبقاء حلّيّته لأنّه حلال من قبلِ الإحرام. والخطاب في {لكم} للذين آمنوا. والصيد هنا بمعنى المصيد ليجري اللفظ على سنن واحد في مواقعه في هذه الآيات، أي أحلّ لكم قتله، أي إمساكه من البحر.

والبحر يشمل الأنهار والأودية لأنّ جميعها يسمّى بحراً في لسان العرب. وقد قال الله تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذب فرات} الآية. وليس العذب إلاّ الأنهار كدجلة والفرات. وصيد البحر: كلّ دوابّ الماء التي تصاد فيه، فيكون إخراجها منه سبب موتها قريباً أو بعيداً. فأمّا ما يعيش في البرّ وفي الماء فليس من صيد البحر كالضفدع والسلحفاة، ولا خلاف في هذا. أمّا الخلاف فيما يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل منه، عند من يرى أنّ منه ما لا يؤكل، فليس هذا موضع ذكره، لأنّ الآية ليست بمثبتة لتحليل أكل صيد البحر ولكنّها منّبهة على عدم تحريمه في حال الإحرام.

... والسيّارة: الجماعة السائرة في الأرض للسفر والتجارة، مؤنث سيّار، والتأنيث باعتبار الجماعة. قال تعالى: {وجاءت سيّارة} [يوسف: 19]. والمعنى أحلّ لكم صيد البحر تتمتّعون بأكله ويتمتّع به المسافرون، أي تبيعونه لمن يتّجرون ويجلبونه إلى الأمصار.

وقوله: {وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً} زيادة تأكيد لتحريم الصيد، تصريحاً بمفهوم قوله {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95]، ولبيان أنّ مدّة التحريم مدّة كونهم حُرُماً، أي محرمين أو مارّين بحرم مكة. وهذا إيماء لتقليل مدّة التحريم استئناساً بتخفيف، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدّة، ولو شاء الله لحرّمه أبداً. وفي « الموطأ»: أنّ عائشة قالت لعروة بن الزبير: يا بن أختي إنّما هي عشر ليال (أي مدّة الإحرام) فإن تخلَّجَ في نفسك شيء فدعه. تعني أكل لحم الصيد.

وذيّل ذلك بقوله: {واتّقوا الله الذي إليه تحشرون}. وفي إجراء الوصف بالموصول وتلك الصلة تذكير بأنّ المرجع إلى الله ليعدّ الناس ما استطاعوا من الطاعة لذلك اللقاء.

والحشر: جمع الناس في مكان. والصيد مراد به المصيد، كما تقدّم.

والتحريم متعلّق بقتله لقوله قبله {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] فلا يقتضي قوله: {وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً} تحريم أكل صيد البرّ على المحرم إذا اشتراه من بائع أو ناوله رجل حلال إيّاه، لأنّه قد علم أنّ التحريم متعلّق بمباشرة المحرم قتله في حال الإصابة. وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمار الذي صاده أبو قتادة، كما في حديث « الموطأ» عن زيد بن أسلم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقسمة الحمار الذي صاده زيد البهزي بين الرفاق وهم محرمون. وعلى ذلك مضى عمل الصحابة، وهو قول.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

"واتقوا الله الذي اليه تحشرون" وفي هذا تذكير بتقوى الله، حتى يعلموا أن الدنيا مهما يكن متاعها لها نهاية، وأن الإنسان محاسب على ما يتناول يوم الحشر أي يوم الجمع من غير تفرقة، والله وحده، هو العالم القادر المنتقم الجبار الرؤوف الرحيم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وبعد أن تكلم الحق عن صيد البر وحكمه، أراد أن يوضح لنا أن ذلك الحكم لا ينسحب على كل صيد. فسبحانه حرم صيد البر إن كنا حرما، أو في دائرة الحرم. ويجيء قول الحق: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96)}. وهذا قول دقيق يبين تحليل صيد البحر وطعامه، وتحريم صيد البر على المحرم كما حرم الصيد في دائرة الحرم على المحرم وغير المحرم؛ لأن المسألة ليست رتابة حل، ولا رتابة حرمة، إنما هي خروج عن مراد النفس إلى مراد الله. وصيد البحر هو ما نأخذه بالحيل ونأكله طريا، وطعام البحر هو ما يعد ليكون طعاما بأن نملحه ولذلك قال: {متاع لكم وللسيارة}. ولهذا جاء الحق بطعام البحر معطوفا على صيد البحر. والشيء لا يعطف على نفسه، فإذا ما جاء العطف فهو عطف شيء على شيء آخر، فالعطف يقتضي المغايرة. إذن فالمقيم يأكل السمك الطري والذي في سيارة ورحلة فليأخذ السمك ويجففه ويملحه طعاما له، مثلما فعل سيدنا موسى مع الحوت...

ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله الذي إليه تحشرون} أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية؛ لأنكم لستم بقادرين على تحمل عذاب النار، فالحق – كما قلنا من قبل – له صفات جمال، وهي التي تأتي بما ييسر وينفع كالبسط، والمغفرة والرحمة، وله سبحانه وتعالى صفات القهر مثل: الجبار وشديد العقاب وغيرها. وكل صفة من صفات الحق لها مطلوب. فعندما يذنب الإنسان فالتجلي في صفات الله يكون لصفات الجلال، ومن جنود صفات الجلال النار. إذن فإياكم أن تظنوا أنكم انفلتم من الله، فمساحة الحرية الممنوحة لكل إنسان تقع في المسافة بين قوسين قوس الميلاد، وقوس الموت، فلا أحد يتحكم في ميلاده أو وفاته. إياك – إذن – أيها الإنسان أن تقع أسير الغرور؛ لأنك مختار فيهم بين القوسين. ومحكوم بقهرين، قهر أنه قد خلقك بدءا، وقهر أنك ستعود إليه – سبحانه وتعالى – نهاية...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فقد حرّم الله صيد البر للمُحْرِمين، أمّا صيد البحر وطعامه، فقد أحلّه الله متاعاً للمؤمنين المحرمين وللقافلة، ولعلَّ ذلك جاء لأنَّ الله يُريد للإحرام أن يكون حالةً من حالات السلام في ما يعيش فيه الإنسان من الأرض، ليكون ذلك سبيلاً من سُبل تركيز روح السلام في نفس المؤمن فيمن حوله، وفي ما حوله من مخلوقات الله.

أمَّا البحر فهو منطقة استثنائيّة، لا يتمثَّل فيها العدوان في الصيد، أو لا تتمثَّل فيها صورة السلام والحرب، كما تتمثَّل في مجتمع الأرض. والله العالم. التقوى عمق روحي للإنسان {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فكانت تقوى الله هي الإيحاء الروحي الَّذي أراد الله إثارته في أعماق الإنسان في إثارة الشعور بالحشر أمامه في يوم القيامة، ليكون ذلك أساساً للانضباط أمام حدود الله في حلاله وحرامه.