الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (96)

قوله تعالى : { وَطَعَامُهُ } : نسقٌ على " صيد " أي : أُحِلَّ لكم الصيدُ وطعامهُ ، فالصيدُ الاصطيادُ ، والطعامُ الإِطعام أي : إنه اسم مصدر ، ويُقَّدَّرُ المفعولُ حينئذٍ محذوفاً أي : إطعامُكم إياه أنفسَكم ، ويجوز أن يكون الصيدُ بمعنى المَصِيد . والهاءُ في " طعامُه " تعودُ على البحر على هذا أي : أُحِلَّ لكم مصيدُ البحر وطعامُ البحر ، فالطعام على هذا غير الصيد ، وفيه خلافٌ بين أهل التفسير ذكرْتُه في موضعه ، ويجوز أن تعود الهاء على هذا الوجهِ أيضاً على الصيد بمعنى المصيد ، ويجوز أن يكونَ " طعام " بمعنى مَطْعوم ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن عباس وعبد الله بن الحرث : " وطَعْمُه " بضم الميم وسكون العين .

قوله : { مَتَاعاً } في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على المصدر وإليه ذهب مكي وابن عطيَة وأبو البقاء وغيرهم ، والتقدير : مَتَّعكم به متاعاً تنتفعون وتَأْتَدِمون به ، وقال مكي : " لأنَّ قولَه " " أُحِلَّ لكم " بمعنى أَمْتَعْتُكم به إمتاعاً ، كقوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . والثاني : أنه مفعول من أجله ، قال الزمشخري : " أي : أحلَّ لكم تمتيعاً لكم ، وهو في المفعول له بمنزلة قولِه تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] في باب الحالِ ، لأنَّ قوله { مَتَاعاً لَّكُمْ } مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام كما أنَّ " نافلةً " حالٌ مختص بيعقوب ، يعني أُحِلَّ لكم طعامُه تمتيعاً لتنائكم تأكلونَه طريَّا ولسيَّارتكم يتزودونه قَديداً " انتهى . فقد خصَّص الزمخشري كونه مفعولاً له بكون الفعلِ وهو " أُحِلَّ مسنداً لقوله : { وَطَعَامُهُ } وليس علة لحِلِّ الصيد ، وإنما علةٌ لحِلِّ الطعام فقط ، وإنما حَمَلَه على ذلك مذهبُه - وهو مذهبُ أبي حنيفة - من أنَّ صيدَ البحرِ منقسمٌ إٍلى ما يُؤْكل وإلى ما لا يؤكل ، وأنَّ طعامَه هو المأكولُ منه ، وأنه لا يقع التمثيلُ إلا المأكول منه طريّاً وقديداً ، وقوله " نافلةً " يعني أنَّ هذه الحالَ مختصةٌ بيعقوب لأنه وَلَدُ وَلَدٍ بخلاف إسحاق فإنه ولدُه لصلبه ، والنافلةُ إنما تُطْلَقُ على ولد الولد دونَ الولد ، فكذا " متاعاً " إلاَّ أنَّ هذا يؤدِّي إلى أنَّ الفعل الواحدَ يُسْنَدُ لفاعلين متعاطفين يكونُ في إسناده إلى أحدهما معللاً وإلى الآخر ليس كذلك ، فإذا قلت : " قام زيد وعمرو إجلالاً لك " فيجوز أن يكونَ " قيام زيد " هو المختصَّ بالإِجلال أو بالعكس ، وهذا فيه إلباسٌ ، وأمَّا ما أورده من الحالِ في الاية الكريمة فثَمَّ قرينةٌ أَوجَبَتْ صَرْفَ الحالِ إلى أحدِهما بخلافِ ما نحن فيه من الآية الكريمة ، وأمَّا غيرُ مذهبِه فإنه يكونُ مفعولاً له غيرَ مختصٍّ بأحدِ المتعاطفين وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ . و " لكم " إنْ قلنا " متاعاً " مصدرٌ فيجوز أن يكونَ صفةً له ، ويكونُ مصدراً مبيناً لكونه وُصِف ، إن قلنا إنه مفعولٌ له فيتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : أعني لكم نحو : " قمتُ إجلالاً لك " ، ويجوز أن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدية المصدر ، إذ التقديرُ : لأنْ أمتِّعَكم ، ولأنْ أُجِلَّك ، وهكذا ما جاء من نظائره .

قوله : { مَا دُمْتُمْ } " ما " مصدريةٌ " ، و " دمتم " صلتُها وهي مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين . والجمهور على ضمِّ دال " دمتم " من لغة من قال : دام يدوم . وقرأ يحيى : { دِمتم } بكسرها من لغة مَنْ يقول : دام يدام كخاف يخاف ، وهما كاللغتين في مات يموتُ ويَمات ، وقد تقدَّم والجمهورُ على " وحُرِّم " مبنياً للمفعول ، " صيدُ " رفعاً على قيامه مَقامَ الفاعل ، وقرئ : " وحَرَّم " مبنياً " للفاعل ، " صيدَ " نصباً على المفعول به . والجمهورُ أيضاً على " حُرُماً " بضم الحاء والراء جمعُ " حَرام " بمعنى مُحْرِم " ك " قَذال " و " قُذُل " . وقرأ ابن عباس { حَرَماً } بفتحهما ، أي : ذوي حَرَم أي إحرام ، وقيل : جَعَلهم بمنزلة المكان الممنوع منه ، والأحسنُ أن يكون من باب " رجل عدل " جعلهم نفسَ المصدرِ فإنَّ " حَرَما " بمعنى إحرام ، وتقدم أن المصدر يقع للواحدِ فما فوقُ بلفظٍ واحد . والبَرُّ معروفٌ ، قال الليث : " ويستعمل نكرة يقال : جلست بَرَّا وخرجْتُ براً " قال الأزهري : " وهو من كلام المولِّدين " وفيه نظر لقول سلمان الفارسي : " إنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيَّا وبَرَّانياً " أي باطنٌ وظاهرٌ ، وهو من تغييرِ النسب ، وقد تقدم استيفاء هذه المادةِ في البقرة . وقَدَّم " إليه " على " تُحْشرون " للاختصاص أي : تُحشرون إليه لا إلى غيره ، أو لتناسُبِ رؤوس الآي .