فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (96)

{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون 96 } .

{ أحل لكم } الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة { صيد البحر } هو ما يصاد فيه ، والمراد بالبحر هنا كل ما يوجد فيه صيد بحري وإن كان نهرا أو غديرا فالمراد بالبحر المياه العذبة والمالحة { وطعامه } هو اسم لكل ما يطعم وقد تقدم .

وقد اختلف في المراد منه هنا فقيل هو ما قذف به البحر إلى الساحل ميتا وطفا عليه ، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين منهم أبو بكر وعمر وابن عمر وأبو أيوب وقتادة ، وقيل طعامه ما ملح منه وبقي وبه قال جماعة ، وروي هذا عن ابن عباس وسعيد بن جرير وسعيد بن المسيب والسدي ، وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره وبه قال قوم ، وقيل المراد به ما يطعم من الصيد أي ما يحل أكله وهو السمك فقط وبه قالت الحنفية .

والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم المأكول منه وهو السمك فيكون كالتخصيص بعد التعميم وهو تكلف ولا وجه له .

وجملة حيوان الماء على نوعين سمك وغير سمك ، فالسمك جميعه حلال على اختلاف أجناسه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر : { هو الطهور ماؤه والحل ميتته } {[664]} أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، لا فرق بين أن يموت بسبب أو غير سبب فيحل أكله ، وبه قال الشافعي وأهل الحديث .

وما عدا السمك قسمان قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما ، وقال سفيان أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس واختلفوا في الجراد فقيل هو من صيد البحر فيحل أكله للمحرم ، وقال الجمهور إنه من صيد البر ، ولا يحل أكله ، وطير الماء من صيد البر أيضا .

قال أحمد يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح ، وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر ، وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( طعامه ما لفظه ميتا فهو طعامه ) ، وعن أبي بكر الصديق قال : صيد البحر ما تصطاده أيدينا وطعامه ما لاثه البحر ، وفي لفظ طعامه كل ما فيه ، وفي لفظ طعامه ميتته .

ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها وأقرها رسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وحديث هو الطهور ماؤه والحل ميتته ، وحديث أحل لكم ميتتان ودمان .

{ متاعا لكم } أي متعتم به متاعا ، وقيل مختص بالطعام أي أحل لكم طعام البحر متاعا وهو تكليف جاء به من قال بالقول الأخير ، بل إذا كان مفعولا له كان من الجميع أي لمن كان مقيما منكم يأكله طريا { وللسيارة } أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديدا ، وقيل السيارة هم الذين يركبونه خاصة .

{ وحرم عليكم صيد البر } أي ما يصاد فيه وهو ما لا يعيش إلا فيه من الوحش المأكول أن تصيدوه { ما دمتم حرما } أي محرمين ، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالا ، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله ، وهو القول الراجح وبه يجمع بين الأحاديث .

وقيل أنه يحل له مطلقا ، وذهب إليه جماعة ، وقيل يحرم عليه مطلقا ، وإليه ذهب آخرون ، وقد بسط الشوكاني هذا في شرحه نيل الأوطار .

وقد ذكر الله تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة ( أحدها ) في أولها وهو قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } الثاني قوله : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الثالث هذه الآية ، وكل ذلك لتأكيد تحريم الصيد على المحرم .

{ واتقوا الله } فيما نهاكم عنه فلا تستحلوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم أو في جميع الجائزات والمحرمات ، ثم حذرهم بقوله : { الذي إليه } لا إلى غيره { تحشرون } وفيه تشديد ومبالغة في التحذير .


[664]:أبو داود الباب 41 من كتاب الطهارة – الترمذي الباب 52 من كتاب الطهارة.