قوله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة } ، وهي الشرك ، { كشجرة خبيثة } ، وهي الحنظل . وقيل : هي الثوم . وقيل : هي الكشوث ، وهي العشقة ، { اجتثت } ، يعني انقلعت ، { من فوق الأرض ما لها من قرار } ، ثبات . معناه : ليس لها أصل ثابت في الأرض ، ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح .
ثم ذكر ضدها وهي كلمة الكفر وفروعها فقال : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } المأكل والمطعم وهي : شجرة الحنظل ونحوها ، { اجْتُثَّتْ } هذه الشجرة { مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } أي : من ثبوت فلا عروق تمسكها ، ولا ثمرة صالحة ، تنتجها ، بل إن وجد فيها ثمرة ، فهي ثمرة خبيثة ، كذلك كلمة الكفر والمعاصي ، ليس لها ثبوت نافع في القلب ، ولا تثمر إلا كل قول خبيث وعمل خبيث يستضر به صاحبه ، ولا ينتفع ، فلا يصعد إلى الله منه عمل صالح ولا ينفع نفسه ، ولا ينتفع به غيره .
( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ )
وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة ؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك ؛ ويخيل إلى بعض
الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة ، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض . . وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض ، فلا قرار لها ولا بقاء .
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب ، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع . إنما هو الواقع في الحياة ، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان .
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي . مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق . . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلما يوجد الشر الخالص - وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية ، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال .
إن الخير بخير ! وإن الشر بشر !
( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) . .
فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض ، ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة .
وقوله : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } هذا مثل كفر الكافر ، لا أصل له ولا ثبات ، وشبه بشجرة الحنظل ، ويقال لها : " الشريان " . [ رواه شعبة ، عن معاوية بن قُرَّة ، عن أنس بن مالك : أنها شجرة الحنظل ]{[15826]} .
وقال أبو بكر البزار الحافظ : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع ، حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس - أحسَبه رفعه - قال : " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة " ، قال : هي النخلة ، { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } قال : هي الشّرْيان{[15827]} .
ثم رواه عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن معاوية ، عن أنس موقوفا{[15828]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - عن شعيب بن الحَبْحاب عن أنس بن مالك ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة " هي الحنظلة " . فأخبرت بذلك أبا العالية فقال : هكذا كنا نسمع .
ورواه ابن جرير ، من حديث حماد بن سلمة ، به{[15829]} ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من هذا فقال :
حدثنا غسان ، عن حماد ، عن شعيب ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع عليه بُسْر ، فقال : ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فقال : " هي النخلة " { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } قال : " هي الحنظل " {[15830]} قال شعيب : فأخبرت بذلك أبا العالية فقال : كذلك كنا نسمع{[15831]} .
وقوله : { اجْتُثَّتْ } أي : استؤصلت { مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } أي : لا أصل لها ولا ثبات ، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ، ولا يصعد للكافر عمل ، ولا يتقبل منه شيء .
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } .
يقول تعالى ذكره : ومثل الشرك بالله ، وهي الكلمة الخبيثة ، كشجرة خبيثة .
اختلف أهل التأويل فيها أيّ شجرة هي ؟ فقال أكثرهم : هي الحنظل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، قال : سمعت أنس بن مالك ، قال في هذا الحرف : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرةٍ خَبِيثَةٍ قال : الشريان فقلت : ما الشريان ؟ قال رجل عنده : الحنظل . فأقرّ به معاوية .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : أخبرنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قال : الحنظل .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عمرو بن الهيثم ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، قال : الشريان : يعني الحنظل .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، عن الأعمش ، عن حبان بن شعبة ، عن أنس بن مالك ، في قوله : كَشَجَرَة خَبِيثَةٍ قال : الشريان ، قلت لأنس : ما الشريان ؟ قال : الحنظل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعيب ، قال : خرجت مع أبي العالية ، نريد أنس بن مالك ، فأتيناه ، فقال : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرةٍ خَبِيثَةٍ تلكم الحنظل .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن شعيب بن الحَبْحاب ، عن أنس ، مثله .
حدثنا المثنى قال : حدثنا آدم العسقلانيّ ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس ، عن أنس بن مالك ، قال : الشجرة الخبيثة : الشريان ، فقلت : وما الشريان ؟ قال : الحنظل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن شعيب ، عن أنس ، قال : تلكم الحنظل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، عن شعيب ، قال : قال أنس : وَمَثَلُ كَلَمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِثَةٍ . . . الاَية ، قال : تلكم الحنظل ، ألم تروا إلى الرياح كيف تصفّقها يمينا وشمالاً ؟ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ : الحنظلة .
وقال آخرون : هذه الشجرة لم تخلق على الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا أبو كدينة ، قال : حدثنا قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَمَثَلُ كَلمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ قال : هذا مثل ضربه الله ، ولم تُخلق هذه الشجرة على وجه الأرض .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح قول من قال : هي الحنظلة خبرٌ ، فإن صحّ فلا قول يجوز أن يقال غيره ، وإلا فإنها شجرة بالصفة التي وصفها الله بها . ذكر الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ هي الحنظلة » . قال شعيب : وأخبرت بذلك أبا العالية ، فقال : كذلك كانوا يقولون .
وقوله : اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ يقول : استؤصلت ، يقال منه : اجتثثت الشيء أجتثه اجتثاثا : إذا استأصلته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ قال : استؤصلت من فوق الأرض . ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ يقول : ما لهذه الشجرة من قرار ولا أصل في الأرض تنبت عليه وتقوم .
وإنما ضربت هذه الشجرة التي وصفها الله بهذه الصفة لكفر الكافر وشركه به مثلاً ، يقول : ليس لكفر الكافر وعمله الذي هو معصية الله في الأرض ثبات ، ولا له في السماء مصعد ، لأنه لا يصعد إلى الله منه شيء .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة كمثل الكافر ، يقول : إن الشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار : يقول : الكافر لا يقبل عمله ولا يصعد إلى الله ، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء ، يقول : ليس له عمل صالح في الدنيا ولا في الاَخرة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرارٍ قال قتادة : إن رجلاً لقي رجلاً من أهل العلم ، فقال : ما تقول في الكلمة الخبيثة ؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرّا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها ، حتى يوافي بها يوم القيامة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أن رجلاً خالجت الريح رداءه فلعنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَلْعَنْها فإنّها مَأْمُورَةٌ ، وَإنّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئا لَيْسَ لَهُ بأهْلٍ رَجَعَتِ اللّعْنَةُ على صَاحِبها » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قال : هذا الكافر ليس له عمل في الأرض وذكرٌ في السماء . اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ قال : لا يصعد عمله إلى السماء ولا يقوم على الأرض . فقيل : فأين تكون أعمالهم ؟ قال : يحملون أوزارهم على ظهورهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ قال : مثل الكافر لا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك ، كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يعني الكافر . قال : اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرارٍ يقول : الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قال : مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ، ولا قوله ولا عمله يستقرّ على الأرض ولا يصعد إلى السماء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : ضرب الله مثل الكافر كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، يقول : ليس لها أصل ولا فرع ، وليست لها ثمرة ، وليس فيها منفعة ، كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقوله ، ولم يجعل الله فيه بركة ولا منفعة .
{ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } كمثل شجرة خبيثة { اجتُثّت } استؤصلت وأخذت جئتها بالكلية . { من فوق الأرض } لأن عروقها قريبة منه . { ما لها من قرار } استقرار . واختلف في الكلمة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة : بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالشرك بالله تعالى والدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق ، ولعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح ، والكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة . وروي ذلك مرفوعا وبشجرة في الجنة ، والخبيثة بالحنظلة والكشوث ، ولعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك .
جملة { اجتثت من فوق الأرض } صفة ل { شجرة خبيثة } لأن الناس لا يتركونها تلتف على الأشجار فتقتلها . والاجتثاث : قطع الشيء كلّه ، مشتق من الجُثة وهي الذات . و { من فوق الأرض } تصوير ل { اجتثت } . وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة { أصلها ثابت وفرعها في السماء .
وجملة { ما لها من قرار } تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار .
والأظهر أن المراد بالكلمة الطيّبة القرآن وإرشاده ، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم ، ف ( الكلمة ) في الموضعين مطلقة على القول والكلام ، كما دل عليه قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } . والمقصود مَعَ التمثيل إظهارُ المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله تعالى في سورة النحل { ضرب الله مثلا عبداً مملوكا إلى قوله ومن رزقناه منا رزقاً حسناً ، فانظر بيانه هنالك .
وجملة { ويضرب الله الأمثال للناس } معترضة بين الجملتين المتعاطفتين . والواو واو الاعتراض . ومعنى ( لعل ) رجاء تذكرهم ، أي تهيئة التذكر لهم ، وقد مضت نظائرها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب مثلا آخر للكافرين، فقال سبحانه: {ومثل كلمة خبيثة}، يعني دعوة الشرك، {كشجرة خبيثة} في المرارة، يعني الحنظل، {اجتثت}، يعني انتزعت، {من فوق الأرض ما لها من قرار} يقول: ما لها من أصل، فهكذا كلمة الكافر ليس لها أصل، كما أن الحنظل أخبث الطعام، فكذلك كلمة الكفر أخبث الدعوة، وكما أن الحنظل ليس فيه ثمر... فكذلك الكافر لا خير فيه، ولا فرع له في السماء يصعد فيه عمله، ولا أصل في الأرض، بمنزلة الحنظلة، يذهب بها الريح، وكذلك الكافر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومثل الشرك بالله، وهي الكلمة الخبيثة، كشجرة خبيثة. اختلف أهل التأويل فيها أيّ شجرة هي؟... وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح قول من قال: هي الحنظلة خبرٌ، فإن صحّ فلا قول يجوز أن يقال غيره، وإلا فإنها شجرة بالصفة التي وصفها الله بها... عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ هي الحنظلة». قال شعيب: وأخبرت بذلك أبا العالية، فقال: كذلك كانوا يقولون.
"اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ" يقول: استؤصلت... وإنما ضربت هذه الشجرة التي وصفها الله بهذه الصفة لكفر الكافر وشركه به مثلاً، يقول: ليس لكفر الكافر وعمله الذي هو معصية الله في الأرض ثبات، ولا له في السماء مصعد، لأنه لا يصعد إلى الله منه شيء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تحتمل الكلمة الطيبة أيضا أن يكون الوحي الذي أوحى الله إلى رسوله، والكلمة الخبيثة ما أوحى الشيطان إليهم كقوله: {وإن الشياطين ليوحون إلى أولياءهم} الآية (الأنعام: 121) فوحي الله، هو ثابت دائم، ينتفع به أهله في الدنيا والعاقبة، ووحي الشيطان هو باطل مضمحل، لا عاقبة له، ولا ينتفع به أهله، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وتشبيه الكلمة الخبيثة بهذه الشجرة التي ليس لها أصل يبقى، ولا ثمر يجتنى أن الكافر ليس له عمل في الأرض يبقى، ولا ذكر في السماء يرقى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} كمثل شجرة خبيثة، أي: صفتها كصفتها... والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك. وقيل: كل كلمة قبيحة. وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث ونحو ذلك. وقوله: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} في مقابلة قوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ}، ومعنى {اجتثت}: استؤصلت، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها. {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أي استقرار. يقال: قرّ الشيء قراراً، كقولك: ثبت ثباتاً، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إنما يضمحل عن قريب لبطلانه، من قولهم: الباطل لجلج. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الظاهر عندي أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة إذا وجدت فيها هذه الأوصاف. فالخبث هو أن تكون كالعضاة، أو كشجر السموم أو نحوها. إذا اجتثت -أي اقتلعت، حيث جثتها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهاء والضعف فتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أن بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا يغني عنه، كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنها شيء نافع وهي خبيثة الجني غير باقية...
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله، فإنه أول الآفات وعنوان المخالفات ورأس الشقاوات...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة، فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض، ما لها من قرار، فلا عرق ثابت، ولا فرع عال، ولا ثمرة زاكية، فلا أصل، ولا جنى، ولا ساق قائم، ولا عرق في الأرض ثابت، فلا أسفلها مغدق، ولا أعلاها مونق، ولا جنى لها، ولا تعلو، بل تعلى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبعه مثل حال الأعداء فقال: {ومثل كلمة خبيثة} أي عريقة في الخبث لا طيب فيها {كشجرة خبيثة}. ولما كان من أنفع الأمور إعدامها والراحة من وجودها على أيّ حالة كانت، بنى للمفعول قوله: {اجتثت} أي استؤصلت بقلع جثتها من أصلها {من فوق الأرض} برأي كل من له رأي؛ ثم علل ذلك لقوله: {ما لها} وأعرق في النفي بقوله: {من قرار} أي عند من له أدنى لب، لأنه لا نفع لها بل وجودها ضار ولو بشغل الأرض، فكذلك الكلمة الخبيثة الباطلة لا بقاء لها أصلاً وإن علت وقتاً، لأن حجتها داحضة فجنودها منهزمة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الكلمة الخبيثة -كلمة الباطل- لكالشجرة الخبيثة؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك؛ ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض.. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء. ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع. إنما هو الواقع في الحياة، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان. والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي. مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق.. والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به -فقلما يوجد الشر الخالص- وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والأظهر أن المراد بالكلمة الطيّبة القرآن وإرشاده، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم، ف (الكلمة) في الموضعين مطلقة على القول والكلام، كما دل عليه قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}. والمقصود مَعَ التمثيل إظهارُ المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله تعالى في سورة النحل {ضرب الله مثلا عبداً مملوكا" إلى قوله "ومن رزقناه منا رزقاً حسناً"، فانظر بيانه هنالك.
وجملة {ويضرب الله الأمثال للناس} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين... ومعنى (لعل) رجاء تذكرهم، أي تهيئة التذكر لهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة التي لا فائدة منها {اجتثت من فوق الأرض}، أي أنها ليس لها جذوع ممتدة في باطن الأرض، بل هي على سطحها، ومعنى {اجتثت من فوق الأرض} أي ظهرت جثتها من فوق الأرض فليس لها جذور تمتد فيها كبعض أنواع النباتات التي ليس لها جذور تغوص في عروق الأرض، {ما لها من قرار}، أي استقرار وثبات في باطن الأرض، والمؤدى من هذا التشبيه أن الكلمة الخبيثة لا تعيش في الوجود، وليس لها بقاء فيه، بل إنها تنتهي بانتهاء زمانها وتنزل من الأضرار بمقدار وقتها، كالسعاية والنميمة والكذب والخديعة والغيبة، وليس لها وجود إلا بمقدار زمانها وقد تضر، لكن عاقبتها وخيمة، وطعامها وبئ، ولا تبقى إلا الكلمة الطيبة، وما يكون لله وللحق وحده...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} في ما يتمثل فيها من معاني الكفر والضلال والزيف والنفاق وغير ذلك مما يتصل بالعقائد الفاسدة، والأخلاق الذميمة والخبيثة والصفات السيئة، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} لا يطيب ثمرها، ولا تعطي ظلاً {اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ} أي استؤصلت من سطح الأرض {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} لأنها لا تملك عمقاً في الجذور يمتد بها في التربة ويمنحها قوة الثبات في الأرض، وبذلك، فإن من الممكن لأيّ اهتزاز أن يطيح بها ويسقطها. وهذا هو المثل الحسّي للكلمة الخبيثة التي لا تملك في مضمونها ثباتاً قادراً على تثبيتها في حركة الواقع، لأنها لا تمثل حقيقة، ولا تملك حجةً تثبّت موقعها في الفكر الذي يتحرك من مواقع البرهان، ولا تحقّق عملياً أيّ نفع للناس وللحياة، لتكون منافعها سبباً لامتدادها في حياة الناس. وهكذا ينبغي للناس أن يواجهوا الكلمات في مداليلها الفكرية والشعورية والعملية، وفي تأثيرها على وعي الشخصية الإنسانية للفكر، وعلى حركة الساحة في الواقع، وعلى عمق النتائج في الحياة، فلا يتوقفوا أمام الأجواء الخيالية أو الضبابيّة أو السحرية التي تستهوي مشاعرهم بشكل سريع، ولكنها تذوب في دخان الغرائز والشهوات، لأنّ قيمة الكلمة هي في عمقها وامتدادها وفعاليتها في خط الخير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الطريف أنّ القرآن الكريم فصل الحديث في وصف الشجرة الطيّبة بينما اكتفى في وصف الشجرة الخبيثة بجملة قصيرة واحدة (اجتّثت من فوق الأرض ما لها من قرار)، وهذا نوع من لطافة البيان أن يتابع الإنسان جميع خصوصيات ذكر «المحبوب» بينما يمرّ بسرعة في جملة واحدة بذكر «المبغوض»!...