{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } وهي كلمة الكفر أو الدعاء إليه أو الكذب أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى . وقرىء { وَمَثَلُ } بالنصب عطفاً على { كَلِمَةً طَيّبَةً } [ إبراهيم : 24 ] وقرأ أبي { وَضَرَبَ الله مَثَلاً * كَلِمَة خَبِيثَة } { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد ، وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة ، والمثل بمعنى الصفة الغريبة { اجتثت } أي اقتلعت من أصلها ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها { مِن فَوْقِ الارض } لكون عروقها قريبة من الفوق فكأنها فوق { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي استقرار على الأرض ، والمراد بهذه الشجرة المنعوتة الحنظلة . وروي ذلك أيضاً مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الضحاك أنها الكشوث ، ويشبه به الرجل الذي لا حسب له ولا نسب كما قال الشاعر :
فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق . . . ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر
وقال الزجاج وفرقه شجرة الثوم ، وقيل : شجرة الشوك ، وقيل : الطحلب ، وقيل : الكمأة وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت ، وقال ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف وفي رواية عن الحبر أيضاً تفسير هذه الشجرة بالكافر . وروى الإمامية وأنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير السجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم : وعلي كرم الله تعالى وجهه . وفاطمة رضي الله تعالى عنها وما تولد منهما ، وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية .
فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى قلب العباد ظهراً وبطناً فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطناً فكان خير العرب قريشاً وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه : { مَثَلُ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } [ إبراهيم : 24 ] » لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق المخالف ، والذي عليه الأكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل ، وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة وإلا فهو نجم لا شجر ، وكذا يقال في إطلاقه على الكشوث ونحوه .
وللإمام الرازي قدس سره كلام في هذين المثلين لا بأس بذكره ملخصاً وهو أنه تعالى ذكر في المثل الأول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها .
الصفة الأولى : كونها { طَيّبَةً } وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها ، ويجب إرادة الجميع إذ به يحصل كمال الطيب .
والثانية : كون { أَصْلُهَا } وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الزوال فهو وإن كان يحصل الفرح بوجدانه إلا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله وأما إذ لم يكن كذلك فإنه يعظم السرور به من غير ما ينغص ذلك .
والثالثة : كون { فِى السماء } وهو أيضاً صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب .
والرابعة : كونها { *دائمة الثمر } لا أن ثمرها حاضر في بعض الأوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضاً إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذٍ .
ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة ، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه ، والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته ، وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة ، أما في الأولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن ، ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لا تحصى بين اللذتين ، وأما في الصفة الثانية فثبوت الأصل في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء ، وأيضاً مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلى جلال الله تعالى وهو من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلاً زواله وأما في الصفة الثالثة فلأن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني ، والنوع الأول أقسامه كثيرة يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم : «التعظيم لأمر الله تعالى » ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفته سبحانه كأحوال العوالم العلوية والسفلية ، وكذا محبة الله تعالى والتشوق إليه سبحانه والمواظبة على ذكره جل شأنه والاعتماد عليه وقطع النظر عما سواه جل وعلا إلى غير ذلك ، والنوع الثاني أقسامه كذلك ويجمعها قوله عليه الصلاة والسلام ، «والشفقة على خلق الله تعالى » ويدخل فيه الرأفة والرحمة والصفح والتجاوز عن الإساءة والسعي في إيصال الخير إلى عباد الله تعالى ودفع الشرور عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان إلى ما لا يحصى ، وهي فروع من شجرة المعرفة فإن الإنسان كلما كان متوغلاً فيها كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى .
وأما في الصفة الرابعة فلأن شجرة المعرفة موجبة لما علمت من الأحوال ومؤثرة في حصولها والمسبب لا ينفك عن السبب ، فدوام أكل هذه الشجرة أتم من دوام أكل الشجرة المنعوتة فهي أولى بهذه الصفة بل ربما توغل العبد في المعرفة فيصير بحيث كلما لاحظ شيئاً لاحظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيصير لا يرى شيئاً إلا يرى الله تعالى قبله ، وأيضاً قد يحصل للنفس من هذه المعرفة الهامات نفسانية وملكات روحانية ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة ، وفي قوله سبحانه : { بِإِذْنِ رَبّهَا } [ إبراهيم : 25 ] دقيقة عجيبة وذلك لأن الإنسان عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العلية قد يفرح بها من حيث هي هي وقد يترقى فلا يفرح بها كذلك وإنما يفرح بها من حيث أنها من المولى جل جلاله وعند ذلك يكون فرحه في الحقيقة بالمولى تبارك وتعالى ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد وقف بالساحل ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول .
وذكر بعضهم في هذا المثال كلاماً لا يخلو عن حسن ، وهو أنه إنما مثل سبحانه الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ . وأصل قائم . وأغصان عالية فكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب . وقول باللسان . وعمل بالأركان ، ولم يرتض قدس سره تفسير الشجرة بالنخلة ولا الحين بما شاع فقال : بعد نقل كلام جماعة إن هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية ألا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف شجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها ، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الكذائية يسعى في تحصيلها وادخارها لنفسه كل عاقل سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل ، واختلافهم في تفسير الحين أيضاً من هذا الباب والله تعالى أعلم ، وذكر تبارك وتعالى في المثل الثاني شجرة أيضاً إلا أنه تعالى وصفها بثلاث صفات .
الصفة الأولى : كونها { خَبِيثَةٍ } وذلك يحتمل أن يكون بحسب الرائحة وأن يكون بحسب الطعم وأن يكون بحسب الصورة وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة ولا حاجة إلى القول بأنها شجرة كذا أو كذا فإن الشجرة الجامعة لتلك الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعاً في المطلوب .
والثانية : { اجتثت مِن فَوْقِ الارض } وهذه في مقابلة أصلها ثابت في الأول .
والثالثة : نفى أن يكون لها قرار وهذه كالمتممة للصفة الثانية ، والمراد بالكلمة المشبهة بذلك الجهل بالله تعالى والإشراك به سبحانه فإنه أول الآفات وعنوان المخافات ورأس السقاوات فخبثه أظهر من أن يخفى وليس له حجة ولا ثبات ولا قوة بل هوداً حض غير ثابت ا ه ، وهو كلام حسن لكن فيه مخالفة لظواهر كثير من الآثار فتأمل .
( ومن باب الإشارة ) :{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجتثت مِن فَوْقِ الارض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } [ إبراهيم : 26 ] إشارة إلى كلمة الكفر أو النفس الخبيثة ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.