قوله تعالى : { أو يكون لك بيت من زخرف } أي : من ذهب ، وأصله الزينة { أو ترقى } ، تصعد { في السماء } ، هذا قول عبد الله بن أبي أمية ، { ولن نؤمن لرقيك } لصعودك { حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } ، أمرنا فيه باتباعك { قل سبحان ربي } ، وقرأ ابن كثير وابن عامر قال : يعني محمداً ، وقرأ آخرون على الأمر ، أي : قل يا محمد { هل كنت إلا بشراً رسولاً } ، أمره بتنزيهه وتمجيده ، على معنى أنه لو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل ، ولكن الله لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر . واعلم أن الله تعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله مثل : القرآن ، وانشقاق القمر ، وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبهها ، والقوم عامتهم كانوا متعنتين لم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا ، فرد الله عليهم سؤالهم .
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ } أي : مزخرف بالذهب وغيره { أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ } رقيًا حسيًا ، { و } ومع هذا ف { وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ }
ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات ؛ وكلام أسفه الناس وأظلمهم ، المتضمنة لرد الحق وسوء الأدب مع الله ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يأتي بالآيات ، أمره الله أن ينزهه فقال : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } عما تقولون علوًا كبيرًا ، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة ، وآرائهم الضالة . { هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا } ليس بيده شيء من الأمر .
أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة . أو أن يرقى في السماء . ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه ، بل لا بد أن يعود إليهم ومعه كتاب محبر يقرأونه !
وتبدو طفولة الإدراك والتصور ، كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة . وهم يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء ! أو بين تفجير الينبوع من الأرض ومجيء الله - سبحانه - والملائكة قبيلا ! والذي يجمع في تصورهم بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق . فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان له والتصديق به !
وغفلوا عن الخارقة الباقية في القرآن ، وهم يعجزون عن الإتيان بمثله في نظمه ومعناه ومنهجه ، ولكنهم لا يلمسون هذا الإعجاز بحواسهم فيطلبون ما تدركه الحواس !
والخارقة ليست من صنع الرسول ، ولا هي من شأنه ، إنما هي من أمر الله سبحانه وفق تقديره وحكمته . وليس من شأن الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها . فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله في تدبيره يمنعان
الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به . . )قل : سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا )يقف عند حدود بشريته ، ويعمل وفق تكاليف رسالته ، لا يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه .
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هو الذهب . وكذلك هو في قراءة ابن مسعود : " أو يكون لك بيت من ذهب " ، { أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ } أي : تصعد{[17844]} في سلم ونحن ننظر إليك { وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ } قال مجاهد : أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة : هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، تصبح موضوعة عند رأسه{[17845]} .
وقوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا } أي : سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته ، بل هو الفعال لما يشاء ، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم ، وإن شاء لم يجبكم ، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وقد فعلت ذلك ، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زَحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم{[17846]} عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرض ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا ، فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يومًا ، وأجوع يومًا - أو نحو ذلك - فإذا جُعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " .
ورواه الترمذي في " الزهد " عن سُوَيْد بن نصر{[17847]} عن ابن المبارك ، به{[17848]} وقال : هذا حديث حسن . وعلي بن يزيد يُضَّعَّفُ في الحديث .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىَ فِي السّمَآءِ وَلَن نّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المشركين الذين ذكرنا أمرهم في هذه الاَيات : أو يكون لك يا محمد بيت من ذهب وهو الزخرف . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ يقول : بيت من ذهب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله مِنْ زُخْرُفٍ قال : من ذهب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ والزخرف هنا : الذهب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ قال : من ذهب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن رجل ، عن الحكم قال : قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود : «أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : لم أدر ما الزخرف ، حتى سمعنا في قراءة عبد الله بن مسعود : «بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ » .
وقوله أوْ تَرْقى فِي السّماءِ يعني : أو تصعد في درج إلى السماء وإنما قيل في السماء ، وإنما يرقى إليها لا فيها ، لأن القوم قالوا : أو ترقى في سلم إلى السماء ، فأدخلت «في » في الكلام ليدلّ على معنى الكلام ، يقال : رَقِيت في السلم ، فأنا أرقَى رَقيا ورِقِيا ورُقيا ، كما قال الشاعر :
أنتَ الّذِي كَلّفتَنِي رَقْيَ الدّرْج *** عَلى الكلالِ والمَشِيبِ والعَرْجِ
وقوله : وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيّكَ يقول : ولن نصدّقك من أجل رُقِيك إلى السماء حتى تُنَزّلَ عَلَيْنا كِتابا منشورا نَقْرَؤُهُ فيه أمرنا باتباعك والإيمان بك ، كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله كِتابا نَقْرَؤُهُ قال : من ربّ العالمين إلى فلان ، عند كلّ رجل صحيفة تصبح عند رأسه يقرؤها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، إلاّ أنه قال : كتابا نقرؤه من ربّ العالمين ، وقال أيضا : تصبح عند رأسه موضوعة يقرؤها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله حتى تُنَزّلَ عَلَيْنا كِتابا نَقْرَؤُهُ : أي كتابا خاصا نؤمر فيه باتباعك .
وقوله : قُلْ سُبْحانَ رَبّي يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ، القائلين لك هذه الأقوال ، تنزيها لله عما يصفونه به ، وتعظيما له من أن يؤتى به وملائكته ، أو يكون لي سبيل إلى شيء مما تسألونيه : هَلْ كُنْتُ إلاّ بَشَرا رَسُولاً يقول : هل أنا إلاّ عبد من عبيده من بني آدم ، فكيف أقدر أن أفعل ما سألتموني من هذه الأمور ، وإنما يقدر عليها خالقي وخالقكم ، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، والذي سألتموني أن أفعله بيد الله الذي أنا وأنتم عبيد له ، لا يقدر على ذلك غيره .
وهذا الكلام الذي أخبر الله أنه كلّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر كان من ملإ من قريش اجتمعوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُحاجّته ، فكلّموه بما أخبر الله عنهم في هذه الاَيات .
ذكر تسمية الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك منهم
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلاً من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأميّة بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونُبَيها ومُنَبها ابني الحجاج السّهميين اجتمعوا ، أو من اجتمع منهم ، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تُعْذِروا فيه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا ، وهو يظنّ أنه بدا لهم في أمره بَدَاء ، وكان عليهم حريصا ، يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عَنَتهم ، حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنُعْذِر فيك ، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الاَباء ، وعِبْت الدين ، وسفّهت الأحلام ، وشتمت الاَلهة ، وفرّقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلاّ وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا ، وإن كنت تريد به مُلكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رَئِيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجنّ : الرئيّ فربما كان ذلك ، بذلنا أموالنا في طلب الطبّ لك حتى نبرئك منه ، أو نُعذِرَ فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بِي ما تَقُولُونَ ، ما جِئتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أطلُبُ أمْوَالَكُمْ ، وَلا الشّرَفَ فِيكُمْ وَلا المُلْكَ عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنّ اللّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولاً ، وأنْزَلَ عَليّ كِتابا ، وأمَرَنِي أنْ أكُونَ لَكُمْ بَشِيرا وَنَذِيرا ، فَبَلّغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فإنْ تَقْبَلُوا مِنّي ما جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ ، وإنْ تَرُدّوهُ عَليّ أصْبِرْ لأَمْرِ اللّهِ حتى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنيِ وَبَيْنَكُمْ » أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ، ولا أقلّ مالاً ، ولا أشدّ عيشا منا ، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسيّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، ويبسط لنا بلادنا ، وليفجّر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصَيّ بن كلاب ، فإنه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم عما تقول ، حقّ هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك ، وصدقوك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك بالحقّ رسولاً ، كما تقول . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بِهذَا بُعِثْتُ ، إنّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ اللّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ ، فَقَدْ بَلّغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم ، فإنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ ، وإنْ تَرُدّوهُ عَليّ أصْبِرْ لأمْرِ اللّهِ حتى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا ، فخذ لنفسك ، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، واسأله فليجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بِفاعِلٍ ، ما أنا بالّذِي يَسألُ رَبّهُ هذَا ، وَما بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِهذَا ، وَلَكِنّ اللّهَ بَعَثَنِي بَشِيرا وَنَذِيرا ، فإنْ تَقْبَلُوا ما جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ ، وَإنْ تَرُدّوهُ عَليّ أصْبِرْ لأَمْرِ اللّهِ حتى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ » قالوا : فأسقط السماء علينا كِسَفا ، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلاّ أن تفعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذلكَ إلى الله إنْ شاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذلكَ » ، فقالوا : يا محمد ، فما علم ربك أنا سنجلس معك ، ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدّم إليك ، ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به ، فقد بلغنا أنه إنما يعلّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا ، أعذرنا إليك يا محمد ، أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا ، وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهنّ بنات الله ، وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً . فلما قالوا ذلك ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أميّة بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، وهو ابن عمته هو لعاتكة بنت عبد المطلب ، فقال له : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ، ليعرفوا منزلتك من الله فَلم تفعل ذلك ، ثم سألوك أن تعجل ما تخوّفهم به من العذاب ، فوالله لا أومن لك أبدا ، حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتيها ، وتأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله لو فعلت ذلك لظننتُ ألاّ أصدّقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسيفا لما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين دعوه ، ولِمَا رأى من مباعدتهم إياه فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر قدر ما أطيق حَمْله ، فإذا سجد في صلاته فضخت رأسه به .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، بنحوه ، إلاّ أنه قال : وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحرث أبناء بني عبد الدار ، وأبا البختريّ بن هشام .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد ، قال : قلت له في قوله تعالى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا قال : قلت له : نزلت في عبد الله بن أبي أمية ، قال : قد زعموا ذلك .
{ أو يكون لك بيت من زُخرف } من ذهب وقد قرئ به وأصله الزنية . { أو ترقى في السماء } في معارجها . { ولن نؤمن لرقيّك } وحده . { حتى تُنزّل علينا كتابا نقرؤه } وكان فيه تصديقك . { قل سبحان ربي } تعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر : " قال سبحان ربي " أي قال الرسول : { هل كنت إلا بشرا } كسائر الناس . { رسولا } كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم على ما يلائم حال قومهم ، ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يخيروها علي هذا هو الجواب المجمل وأما التفصيل فقد ذكر في آيات أخر كقوله : { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } { ولو فتحنا عليهم بابا } .
وإنما عدي { ترقى في السماء } بحرف ( في ) الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم .
ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرؤونه ، فيه شهادة بأنه بلغ السماء . قيل : قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية ، قال : حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك .
ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتاباً كاملاً دفعة واحدة ، فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن ، توهماً بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلاً من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه ، ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه .
واللام في قوله : { لرقيك } يجوز أن تكون لام التبيين . على أن « رقيك » مفعول { نؤمن } مثل قوله : { لن نؤمن لك } فيكون ادعاء الرقي منفياً عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب . ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول { نؤمن } محذوفاً دل عليه قوله قبله : { لن نؤمن لك } . والتقدير : لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتاباً . والمعنى : أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتاباً يرونه نازلاً من السماء . وهذا تورك منهم وتهكم .
ولما كان اقتراحهم اقتراح مُلاجّة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كلامهم بكلمة { سبحان ربي } التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة ، ثم بالاستفهام الإنكاري ، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصراً إضافياً ، أي لستُ رباً متصرفاً أخلق ما يطلب مني ، فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها .
وقرأ الجمهور { قل } بصيغة فعل الأمر . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر { قال } بألف بعد القاف بصيغة الماضي على أنه حكاية لجواب الرسول صلى الله عليه وسلم عن قولهم : { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } على طريقة الالتفات .