اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوۡ يَكُونَ لَكَ بَيۡتٞ مِّن زُخۡرُفٍ أَوۡ تَرۡقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبٗا نَّقۡرَؤُهُۥۗ قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا} (93)

90

قوله { أو ترقى } : فعل مضارع [ منصوبٌ ] تقديراً ؛ لأنه معطوفٌ على " تَفْجُرَ " ، أي : أو حتَّى ترْقَى في السَّماء ، [ أي : ] في معارجها ، والرقيُّ : الصعود ، يقال : رَقِيَ ، بالكسر ، يرقى ، بالفتح ، رقيًّا على فعولٍ ، والأصل : " رُقُوي " فأدغم بعد قلب الواو ياء ، ورقياً بزنة ضربٍ ، قال الراجز : [ الرجز ]

أنْتَ الَّذي كَلَّفتَنِي رقْيَ الدَّرجْ *** عَلى الكَلالِ والمَشِيبِ والعَرجْ{[13]}

قوله تعالى : { نَّقْرَؤُهُ } يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون نعتاً ل " كتاباً " .

والثاني : أن يكون حالاً مِنْ " نَا " في " عَليْنَا " ؛ قاله أبو البقاء ، وهي حال مقدرة ؛ لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزاله ، لا في حال إنزاله .

فصل في سبب نزول الآية

قال المفسرون : لمّا قال المشركون : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا } الآيات ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معهُ عبدُ الله بن أميَّة ، وهو ابنُ عمَّته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمد ، عرض عليك قومُك ما عرضُوا ، فلم تقبلهُ منهم ، ثمَّ سألوكَ لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله تعالى ، فلم تفعل ، ثمَّ سألوك أن تعجِّل ما تُخوِّفهم به ، فلم تفعل ، فوالله لا أومن بك حتَّى تتَّخذ إلى السَّماء سلَّماً ترقى فيه ، وأنا أنظر حتَّى تأتيها ، وتنزل بنُسخةٍ منشورةٍ ، ومعك نفرٌ من الملائكةِ يشهدون لك بما تقولُ . وأيم الله ، لو فعلت ذلك ، لظننتُ أنِّي لا أصدِّقك ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً لما يرى من مباعدتهم{[14]} .

ثم قال تعالى : قل ، يا محمد : { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أمره بتنزيهه ، وتمجيده ، أي : أنَّه لو أراد أن ينزل ما طلبوا ، لفعل ، ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر .

واعلم أنَّه تعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآياتِ والمعجزات ما يغني عن هذا كلِّه مثل القرآن ، وانشقاق القمر ، وتفجير العيون من بين الأصابع ، وما أشبهها ، والقوم عامَّتهم كانوا متعنِّتين ، لم يكن قصدهم طلب الدَّليل ؛ ليؤمنوا ، فردَّ الله عليهم سؤالهم .

قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } قرأ ابن كثير ، وابن عامرٍ{[15]} " قال " فعلاً ماضياً ؛ إخباراً عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - بذلك ، والباقون " قُلْ " على الأمر أمراً منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهي مرسومة في مصاحف المكيين{[16]} والشاميين : " قال " بألف ، وفي مصاحف غيرهم " قل " بدونها ، فكل وافق مصحفه .

قوله : { إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } يجوز أن يكون " بَشَراً " خبر " كُنْتُ " و " رَسُولاً " صفته ، ويجوز أن يكون " رَسُولاً " هو الخبر ، و " بَشَراً " حال مقدمة عليه .

فصل في استدلالهم بهذه الآية

استدلُّوا بهذه الآية على أن المجيء على الله والذهاب محالٌ ؛ لأنَّ كلمة " سبحان " للتنزيه عمَّا لا ينبغي .

فقوله : { سُبْحَانَ رَبِّي } : تنزيه لله تعالى عن شيءٍ لا يليقُ به ، وذلك تنزيهُ الله عما نسب إليه ممَّا تقدَّم ذكره ، وليس فيما تقدَّم ذكره شيء مما لا يليقُ بالله إلا قولهم : أو تأتي بالله ، فدلَّ على أنَّ قوله : " سُبحانَ ربِّي " تنزيهٌ لله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في الإتيان ، والمجيء ؛ فدلَّ ذلك على فساد قول المشبهة .

فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في اقتراح الأشياء ؟ .

فالجواب : أنَّ القوم لم يتحكَّموا على الله ، وإنما قالوا للرسول : إن كنت نبيًّا صادقاً ، فاطلب من الله أن يشرِّفك بهذه المعجزات ، فالقوم إنَّما تحكَّموا على الرسول صلى الله عليه وسلم لا على الله ، فلا يليقُ حمل قوله : { سُبْحَانَ رَبِّي } على هذا المعنى ، فيجب حمله على قولهم { أَوْ تَأْتِيَ بالله } .

فصل في تقرير هذا الجواب

اعلم أنَّ تقرير هذا الجواب : أن يقال : إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنَّكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء ، أو طلبتم منِّي أن أطلب من الله إظهارها على يديَّ ؛ لتدلَّ لكم على كوني رسولاً حقًّا من عند الله .

والأول باطلٌ ؛ لأنِّي بشر ، والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء .

والثاني أيضاً : باطل ؛ لأنِّي قد أتيتكم بمعجزة واحدة ، وهي القرآن ، فطلب هذه المعجزات طلبٌ لما لا حاجة إليه ، وكان طلبها يجري مجرى التعنُّت والتحكُّم ، وأنا عبدٌ مأمورٌ ليس لي أن أتحكَّم على الله ؛ فسقط هذا السؤال ؛ فثبت كونُ قوله : { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } جواباً كافياً في هذا الباب .


[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.