السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَوۡ يَكُونَ لَكَ بَيۡتٞ مِّن زُخۡرُفٍ أَوۡ تَرۡقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبٗا نَّقۡرَؤُهُۥۗ قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا} (93)

خامسها : قولهم : { أو يكون لك } أي : خاصاً بك { بيت من زخرف } أي : ذهب كامل الحسن والزينة .

سادسها : قولهم : { أو ترقى } أي : تصعد { في السماء } درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعداً { ولن نؤمن } أي : نصدق مذعنين { لرقيك } أي : أصلاً { حتى تنزل } وحققوا معنى كونه من السماء بقولهم { علينا كتاباً } ومعنى كونه في رق أو نحوه بقولهم { نقرؤه } يأمرنا فيه بأتباعك . روى عكرمة عن ابن عباس أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا البحتري بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبهانا ومنبهاً ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك يكلمونك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظنّ أنهم بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم أنّ رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه قد غلب عليك لا تستطيع ردّه بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجنّ الرئي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه إليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم . فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً وأشدّ عيشاً منا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهاراً كأنهار الشأم والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدّقوك صدّقناك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به وإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردّوه أصبر لأمر الله . قالوا : فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدّقك وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنا نقوم بالأسواق ونلتمس المعاش كما تلتمسه فقال صلى الله عليه وسلم ما بعثت بهذا ولكنّ الله بعثني بشيراً ونذيراً . قالوا : فأسقط السماء كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل ؟ فقال : ذاك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم . فقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً ، فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أمية وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب ، وقال له : عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى به ، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ، ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله هذه الآية » وفيها إشارة إلى أنه ليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها إذ لو فتح هذا الباب لزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعجز اقترحوا عليه بمعجز آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدّ ينقطع عنه عناد المعاندين وتعنت الجاهلين

مع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الآيات والمعجزات ما أغنى عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبه ذلك .

ولما تمّ تعنتهم وكان لسان الحال طالباً من الله تعالى الجواب عنه أمر الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى : { قل } أي : لهؤلاء البعداء والأشقياء : { سبحان ربي } أي : تعجباً من اقتراحاتهم وتنزيهاً لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة . وقرأ ابن كثير وابن عامر بصيغة الماضي والباقون قل بصيغة الأمر و{ هل كنت إلا بشراً } لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر { رسولاً } كما كان من قبلي من الرسل وكانوا لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم بما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يتخيروها . هذا هو الجواب المجمل ، وأمّا التفصيلي فقد ذكر في آيات أخر كقوله تعالى : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم } [ الأنعام ، 7 ] { ولو فتحنا عليهم باباً } [ الحجر ، 14 ]

ونحو ذلك .