{ ولا تمنن تستكثر } أي : لا تعط مالك مصانعةً لتعطى أكثر منه ، وهذا قول أكثر المفسرين ، قال الضحاك ومجاهد : كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قال الضحاك : هما رباءان حلال وحرام ، فأما الحلال فالهدايا ، وأما الحرام فالربا . قال قتادة : لا تعط شيئاً طمعاً لمجازاة الدنيا ، يعني أعط لربك وأرد به الله . وقال الحسن : معناه لا تمنن على الله فتستكثره ، قال الربيع : لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل . وروى خصيف عن مجاهد : ولا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين إذا كان ضعيفاً ، دليله : قراءة ابن مسعود : ولا تمنن أن تستكثر من الخير ، قال ابن زيد معناه : لا تمنن بالنبوة على الناس فتأخذ عليها أجراً أو عرضاً من الدنيا .
{ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } أي : لا تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية ، فتتكثر{[1276]} بتلك المنة ، وترى لك [ الفضل ] عليهم بإحسانك المنة ، بل أحسن إلى الناس مهما أمكنك ، وانس [ عندهم ] إحسانك ، ولا تطلب أجره إلا من الله تعالى واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد سواء .
وقد قيل : إن معنى هذا ، لا تعط أحدا شيئا ، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه ، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
ويوجهه إلى إنكار ذاته وعدم المن بما يقدمه من الجهد ، أو استكثاره واستعظامه : ( ولا تمنن تستكثر ) . . وهو سيقدم الكثير ، وسيبذل الكثير ، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء . ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به . . وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها . فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه . بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله ؛ شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه . فهو فضل يمنحها إياه ، وعطاء يختارها له ، ويوفقها لنيله . وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله . لا المن والاستكثار .
وقوله : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال ابن عباس : لا تعط العطية تلتمس أكثر منها . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وأبو الأحوص ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم .
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : " ولا تمنن أن تستكثر " .
وقال الحسن البصري : لا تمنن بعملك على ربك تستكثره . وكذا قال الربيع بن أنس ، واختاره ابن جرير . وقال خصيف ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قال تمنن في كلام العرب : تضعف .
وقال ابن زيد : لا تمنن بالنبوة على الناس ، تستكثرهم بها ، تأخذ عليه عوضا من الدنيا .
وقوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولا تُعطِ يا محمد عطية لتعطَى أكثر منها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تُعط عطية تلتمس بها أفضل منها .
حدثنا أبو حميد الحمصي أحمد بن المُغيرة ، قال : ثني أبو حيوة شريح بن يزيد الحضرميّ ، قال : ثني أرطاة عن ضمرة بن حبيب وأبي الأحوص في قوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعط شيئا ، لتُعْطي أكثر منه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن عكرِمة ، في قوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعطِ شيئا لتُعْطَي أكثر منه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني من سمع عكرِمة يقول : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعط العطية لتريد أن تأخذ أكثر منها .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل ، عن منصور ، عن إبراهيم وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعط كيما تَزداد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مُغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعط شيئا لتأخذ أكثر منه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سلمة ، عن الضحاك وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعطِ لتُعْطَي أكثر منه .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعطِ لتُعْطَى أكثر منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعط شيئا لتزداد .
حدثنا أبو كُرَيْبٍ قال : حدثنا وكيع ، عن ابن أبي روّاد ، عن الضحاك ، قال : هو الربا الحلال ، كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة .
حدثنا أبو كُرَيْبٍ ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي حجيرة ، عن الضحاك ، هما رِبَوَان : حلال ، وحرام فأما الحلال : فالهدايا ، والحرام : فالربا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يقول : لا تعط شيئا ، إنما بك مجازاة الدنيا ومعارضها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعط شيئا لتثاب أفضل منه ، وقاله أيضا طاوس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : تعطي مالاً مصانعة رجاء أفضل منه من الثواب في الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : لا تعط لتُعْطي أكثر منه .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تعط لتزداد .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك بن مزاحم وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : هي للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة ، وللناس عامّة مُوَسّع عليهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا تمنن عملك على ربك تستكثر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سفيان بن حسين ، عن الحسن ، في قوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تمنن عملك تستكثره على ربك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تمنن تستكثر عملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن نافع أبو غانم ، عن أبي سهل ، كثير بن زياد ، عن الحسن وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يقول : لا تمنن تستكثر عملك الصالح .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا يكثر عملك في عينك ، فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تضعف أن تستكثر من الخير . ووجّهوا معنى قوله : وَلا تَمْنُنْ أي لا تضعف ، من قولهم : حبل منين : إذا كان ضعيفا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو حميد بن المغيرة الحمصي ، قال : حدثنا عبد الله بن عمرو ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، عن خَصِيف عن مجاهد ، في قوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قال : تمنن في كلام العرب : تضعف .
وقال آخرون في ذلك : لا تمنن بالنبوّة على الناس ، تأخذ عليه منهم أجرا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال : لا تمنن بالنبوّة والقرآن الذي أرسلناك به تستكثرهم به ، تأخذ عليه عوضا من الدنيا .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال : معنى ذلك : ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح .
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك في سياق آيات تقدمّ فيهنّ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالجدّ في الدعاء إليه ، والصبر على ما يَلْقَى من الأذى فيه ، فهذه بأن تكون من أنواع تلك ، أشبه منها بأن تكون من غيرها . وذُكر عن عبد الله بن مسعود أن ذلك في قراءته : «وَلا تَمْنُنْ أنْ تَسْتَكْثِرُ » .
ولا تمنن تستكثر أي لا تعط مستكثرا نهى عن الاستفزاز وهو أن يهب شيئا طامعا في عوض أكثر نهي تنزيه أو نهيا خاصا به لقوله صلى الله عليه وسلم المستفزز يثاب من هبته والموجب له ما فيه من الحرص والضنة أو لا تمنن على الله تعالى بعبادتك مستكثرا إياها أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه وقرئ تستكثر بالسكون للوقف أو الإبدال من تمنن على أنه من بكذا أو تستكثر بمعنى تجده كثيرا وبالنصب على إضمار أن وقد قرئ بها وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بحذفها وإبطال عملها كما روي احضر الوغى بالرفع .
واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } . فقال ابن عباس وجماعة معه : لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه ، فكأنه من قولهم ، من إذا أعطى ، قال الضحاك ، وهذا خاص بالنبي عليه السلام ، ومباح لأمته لكن لا أجر لهم فيه . قال مكي : وهذا معنى قوله تعالى : { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله }{[11413]} [ الروم : 39 ] ، وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : { ولا تمنن تستكثر } لا تقل دعوت فلم أجب وروى قتادة أن المعنى لا تدل بعملك{[11414]} ، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف ، وقال ابن زيد : معناه { ولا تمنن } على الناس بنبوءتك { تستكثر } بأجر أو بكسب تطلبه منهم . وقال الحسن بن أبي الحسن : معناه { ولا تمنن } على الله بجدك { تستكثر } أعمالك ويقع لك بها إعجاب ، فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها . وقال مجاهد : معناه ولا تضعف { تستكثر } ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير ، فهذه من قولهم حبل منين أي ضعيف{[11415]} ، وفي قراءة ابن مسعود : «ولا تمنن أن تستكثر » ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «تستكثرْ » بجزم الراء ، وذلك كأنه قال لا تستكثر ، وقرأ الأعمش : «تستكثرَ » بنصب الراء ، وذلك على تقدير أن مضمرة وضعف أبو حاتم الجزم ، وقرأ ابن أبي عبلة : «ولا تمنن فتستكثرْ » بالفاء العاطفة والجزم ، وقرأ أبو السمال : «ولا تمنّ » بنون واحدة مشددة .
مناسبة عطف { ولا تمنن تستكثر } على الأمر بهجر الرجز أن المنّ في العطية كثير من خُلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهياً يقتضي الأمر بالصدقة والإِكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال : وتصدق وأُكثر من الصدقة ولا تمنن ، أي لا تعدّ ما أعطيته كثيراً فتمسك عن الازدياد فيه ، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت .
والسين والتاء في قوله : { تستكثر } للعدّ ، أي بعد ما أعطيته كثيراً .
وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة ، أي لأنها من خلقه صلى الله عليه وسلم إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي « إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم » . ففي هذه الآية إيماء إلى التصدق ، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة ، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة .
والمنّ : تذكير المنعِم المنعَمَ عليه بإنعامه .
والاستكثار : عدّ الشيء كثيراً ، أي لا تستعظم ما تعطيه .
وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة . وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعنى { ولا تمنن تستكثر } ليس شيء منها بمناسب ، وقد أنهاها القرطبي إلى أحد عشر .
و { تستكثر } جملة في موضع الحال من ضمير { تمنن } وهي حال مقدرة .