الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ} (6)

قوله : { وَلاَ تَمْنُن } : العامَّةُ على فَكِّ الإِدغام . والحسن وأبو السَّمَّال بالإِدغام . قد تَقَدَّم أنَّ المجزومَ/ والموقوفَ من هذا النوع يجوزُ فيهما الوجهانِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه في المائدة عند { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] . والمشهور أنه من المَنِّ ، وهو الاعتدادُ على المُعْطي بما أعطاه . وقيل : " لا تَضْعُفْ " مِنْ قولِهم : حبلٌ مَنينٌ أي : ضعيفٌ .

قوله : { تَسْتَكْثِرُ } العامَّةُ على رفعِه ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه في موضع الحالِ أي : لا تَمْنُنْ مُسْتَكْثِراً ما أعطَيْتَ . وقيل : معناه : لِتَأْخُذْ أكثرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ . والثاني : أنَّه على حَذْفِ " أَنْ " يعني أنَّ الأصلَ : ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ ، فلمَّأ حُذِفَتْ " أَنْ " ارتفع الفعلُ كقولِه :

ألا أيُّهذا الزَّاجري أَحْضُرُ الوغى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في إحدى الروايَتَيْن ، قاله الزمخشري ، ولم يُبَيِّنْ : ما محلُّ " أَنْ " وما في حَيِّزها . وفيه وجهان ، أظهرهما وهو الذي يُريده هو أنَّها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلافِ فيها بعد حَذْفِ حرف الجر ، وهو هنا لامُ العلة تقديرُه : ولا تَمْنُنْ لأَنْ تَسْتكْثِرَ . والثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ فقط مفعولاً بها أي : لا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتكْثِرَ . من الخير ، قاله مكي ، وقد تَقَدَّم لك أنَّ " تَمْنُنْ " بمعنى تَضْعُف ، وهو قولُ مجاهدٍ ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال بعد كلامِ الزمخشريِّ : " وهذا لا يجوزُ أن يُحملَ القرآنُ عليه ؛ لأنَّ ذلك لا يجوزُ إلاَّ في الشعرِ ، ولنا مَنْدوحة عنه مع صحةِ معنى الحالِ " قلت : قد سبقه مكيٌّ وغيرُه إلى هذا . وأيضاً فقولُه : " في الشعر " ممنوعٌ ؛ هؤلاء الكوفيون يُجيزون ذلك وأيضاً فقد قرأ الحسن والأعمش " تَسْتَكْثِرَ " نصباً ، وهو على إضمار " أَنْ " كقولهم : " مُرْهُ يَحْفِرَها " وأَبلَغُ مِنْ ذلك التصريحُ بأنْ في قراءةِ عبد الله : " ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ " .

وقرأ الحسنُ أيضاً وبانُ أبي عبلة " تستكثِرْ " جزماً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أَنْ يكونَ بدلاً من الفعلِ قبله ، كقولِه تعالى : { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 - 69 ] ف " يُضاعَفْ " بدلٌ مِنْ " يَلْقَ " وكقولِه :

مَتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا

ويكونُ من المَنِّ الذي في قولِه : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى } [ البقرة : 264 ] الثاني : أن يُشَبَّه ( ثِرْوَ ) ب " عَضُد " فيُسَكَّنَ تخفيفاً ، قاله الزمخشري ، يعني أنه تَأْخُذُ من مجموعِ " تَسْتكثر " ومن الكلمةِ بعده وهو الواوُ ما يكون فيه شبيهاً ب " عَضُد " . ألا ترى أنه قال : " أنْ يُشَبَّه ثِرْوَ " فأخذ بعضَ " تَسْتكثر " وهو الثاءُ والراءُ وحرفَ العطفِ مِنْ قولِه : { ولربِّك فاصبِرْ } .

وهذا كما قالوا في قولِ امرِىء القيس :

فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ *** إثماً من الله ولا واغلِ

بتسكين " أَشْرَبْ " : إنهم أخذوا من الكلمتين ( رَبْغ ) ك عَضُد ، ثَم سُكِّن . وقد تقدَّم في سورةِ يوسف في قراءة قنبل { مَن يَتَّقِي } [ يوسف : 90 ] بثبوت الياءِ أنَّ " مَنْ " موصولةٌ ، فاعْتُرِض بجزم " يَصْبِرْ " فأجيب : بأنه شبه ( بِرُف ) أخذوا الباءَ والراءَ مِنْ " يَصْبر " ، والفاءَ مِنْ " فإنَّ " وهذا نظيرُ تيْكَ سواءً . الوجه الثالث أَنْ يُعْتَبَرَ حالُ الوقفِ ويُجْرَى الوصلُ مُجْراه ، قاله الزمخشريُّ أيضاً ، يعني أنه مرفوعٌ ، وإنما سُكِّن تخفيفاً ، أو أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف . قال الشيخ : " وهذان لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ عليهما مع وجودِ أرجحَ منهما ، وهو البدل " . قلت : الحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ، كيف يُعْدَلُ إلى هذَيْن الوجهَيْن مع ظهورِ البدلِ معنىً وصحةً وصناعةً ؟