مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ} (6)

قوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } فيه مسائل :

المسألة الأولى : القراءة المشهورة تستكثر برفع الراء وفيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن يكون التقدير ولا تمنن لتستكثر فتنزع اللام فيرتفع و( ثانيها ) أن يكون التقدير لا تمنن أن تستكثر ثم تحذف أن الناصبة فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر ( وثالثها ) أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدرا أن تستكثر قال أبو علي الفارسي : هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا للصيد فكذا هاهنا المعنى مقدرا الاستكثار ، قال : ويجوز أن يحكي به حالا آتية ، إذا عرفت هذا فنقول ، ذكروا في تفسير الآية وجوها ( أحدها ) أنه تعالى أمره قبل هذه الآية ، بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال : { ولا تمنن تستكثر } أي لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة ، كالمستكثر لما تفعله ، بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقربا بذلك إليه غير ممتن به عليه . قال الحسن ، لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها و( ثانيها ) لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين ، والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام ، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال : { ولربك فاصبر } ، ( وثالثها ) لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر ، أي لتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به مالك ( ورابعها ) لا تمنن أي لا تضعف من قولهم : حبل منين أي ضعيف ، يقال : منه السير أي أضعفة . والتقدير فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية ، ومن ذهب إلى هذا قال : هو مثل قوله : { أفغير الله تأمروني أعبد } أي أن أعبد فحذفت أن وذكر الفراء أن في قراءة عبد الله ( ولا تمتن تستكثر ) وهذا يشهد لهذا التأويل ، وهذا القول اختيار مجاهد ( وخامسها ) وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله : { ولا تمنن } أي لا تعط يقال : مننت فلانا كذا أي أعطيته ، قال : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك } أي فأعط ، أو أمسك وأصله أن من أعطى فقد من ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة ، فالمعنى ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه ، وعلى هذا التأويل سؤالات :

السؤال الأول : ما الحكمة في أن الله تعالى منعه من هذا العمل ؟ ( الجواب ) الحكمة فيه من وجوه ( الأول ) لأجل أن تكون عطاياه لأجل الله لا لأجل طلب الدنيا ، فإنه نهى عن طلب الدنيا في قوله : { ولا تمدن عينيك } وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة ، ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة ( الثاني ) أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له ، وذلك لا يليق بمنصب النبوة ، لأنه يوجب دناءة الآخذ ، ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه ، وتنفير المأخوذ منه ، ولهذا قال : { أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } .

السؤال الثاني : هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام ، أم يتناول الأمة ؟ ( الجواب ) ظاهر اللفظ لا يفيد العموم وقرينة الحال لا تقتضي العموم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة ، ومن الناس من قال هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء ، والله تعالى منع الكل من ذلك .

السؤال الثالث : بتقدير أن يكون هذا النهي مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه ؟ ( والجواب ) ظاهر النهي للتحريم ( الوجه السادس ) في تأويل الآية قال القفال : يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي لأحد شيئا لطلب عوض سواء كان ذلك العوض زائدا أو ناقصا أو مساويا ، ويكون معنى قوله : { تستكثر } أي طالبا للكثرة كارها أن ينقص المال بسبب العطاء ، فيكون الاستكثار هاهنا عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائدا على العطاء ، فسمى طلب الثواب استكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله ، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيبا ، ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا وإن كان حين تتزوج أمه كبيرا ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خاليا عن انتظار العوض والتفات الناس إليه ، فيكون ذلك خالصا مخلصا لوجه الله تعالى ( الوجه السابع ) أن يكون المعنى ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية ، بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام ، فإن الدنيا بأسرها قليلة ، فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا ، وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة ( فالوجه الأول ) معناه كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعا من طلب الزيادة في العوض ( والوجه الثاني ) معناه كونه ممنوعا عن طلب مطلق العوض زائدا كان أو مساويا أو ناقصا ( والوجه الثالث ) معناه أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام ( الوجه الثامن ) معناه إذا أعطيت شيئا فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية ، فإن المن محبط لثواب العمل ، قال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس } .

المسألة الثانية : قرأ الحسن : { تستكثر } بالجزم وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة ، ومنهم من قبلها وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه : ( أحدها ) كأنه قيل : لا تمنن لا تستكثر و( ثانيها ) أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات ، كما حكاه أبو زيد في قوله تعالى : { بلى ورسلنا لديهم يكتبون } بإسكان اللام ( وثالثها ) أن يعتبر حال الوقف ، وقرأ الأعمش : { تستكثر } بالنصب بإضمار أن كقوله :

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى *** [ وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى ]

ويؤيده قراءة ابن مسعود : ولا تمنن أن تستكثر .