قوله : { وَلاَ تَمْنُن } ، العامة : على فك الإدغام والحسن وأبو السمال{[58469]} والأشهب العقيلي : بالإدغام .
وقد تقدم أن المجزوم ، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان ، وتقدم تحقيقه في «المائدة » ، عند قوله تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] .
والمشهور أنه من المنّ ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه ، وقيل : معناه «ولا تضعف » من قولهم : حبل متين ، أي : ضعيف .
قوله : { تَسْتَكْثِرُ } ، العامة على رفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه في موضع الحال ، أي : لا تمنن مستكثراً ما أعطيت .
وقيل : معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت .
الثاني : على حذف «أن » يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت «أن » ارتفع الفعل ، كقوله : [ الطويل ]
4952 - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرُ الوغَى *** . . . {[58470]}
في إحدى الروايتين . قاله الزمخشريُّ .
ولم يبين ما محل «أن » وما في خبرها . وفيه وجهان :
أظهرهما - وهو الذي يريده - هو أنها إما في محل نصب ، أو جر على الخلاف فيها ؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة ، تقديره : ولا تمنن لأن تستكثر .
والثاني : أنها في محل نصب فقط مفعولاً بها ، أي : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قاله مكي .
وقد تقدم أن «تَمْنُنْ » بمعنى تضعف ، وهو قول مجاهد .
إلا إنَّ أبا حيان قال{[58471]} - بعد كلام الزمخشريِّ - : «وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى » .
والكوفيون يجيزون ذلك ، وأيضاً : فقد قرأ الحسن والأعمش{[58472]} : «تَسْتكثِرَ » أيضاً على إضمار «أن » ، كقولهم : «مُرْهُ يحفرها » .
وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله{[58473]} : «ولا تمنن أن تستكثر » .
وقرأ الحسن{[58474]} - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من الفعل قبله . كقوله : { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } ف «يُضَاعَفُ » بدلاً من «يَلْقَ » ؛ وكقوله : [ الطويل ]
4953 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا*** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا{[58475]}
ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] .
الثاني : أن يشبه «ثرو » بعضد فيسكن تخفيفاً . قاله الزمخشري .
يعني : أنه يأخذ من مجموع «تستكثر » [ ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد ، ألا ترى أنه قال : أن يشبه ثرو ، فأخذ بعض «تستكثر » ] وهو الثاء ، والراء وحرف العطف من قوله : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } ؛ وهذا كما قالوا في قول امرئ القيس : [ السريع ]
4954 - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ*** إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ{[58476]}
بتسكين «أشْرَبْ » - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ ك «عضد » ثم سكن .
وقد تقدم في سورة «يوسف » في قراءة قُنبل : «من يَتّقي » ، بثبوت الياء ، أن «مَنْ » موصولة ، فاعترض بجزم «يَصْبِر » ؟ .
فأجيب بأنه شبه ب «رف » ، أخذوا الباء والراء من «يَصْبِر » والفاء من «فإنَّه » ، وهذه نظير تيك سواء .
الوجه الثالث : أن يعتبر حال الوقف ، ويجرى الوصل مجراه ، قاله الزمخشري ، أيضاً .
يعني أنه مرفوع ، وإنما سكن تخفيفاً ، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ .
قال أبو حيان{[58477]} : «وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما ، وهو البدل معنى وصناعة » .
في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال - جلَّ ذكره - : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ، أي : لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه .
قال الحسن - رحمه الله - : بحسناتك ، فتستكثرها{[58478]} .
وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ : ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها{[58479]} .
وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام ، فإنَّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } .
وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك ، أي : لتستكثر ، أي : لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك .
وقال مجاهدٌ : لا تضعف أن تستكثر من الخير{[58480]} ، من قولك : حبل منين ، إذا كان ضعيفاً ، ودليله قراءة ابن مسعود : ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضاً ، والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك{[58481]} .
وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منة من الله عليك ، إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته .
وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربِّك ، لا تقل : دعوت فلم يستجب لي .
وقيل : لا تفعل الخير لترائي به الناس .
فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يتناول الأمة ؟ .
فالجوابُ : أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة .
وقيل : المعنى في حقِّ الأمة هو الرياءُ ، واللَّهُ تعالى منع الكل من ذلك .
فإن قيل : هل هذا نهي تحريم أو تنزيه ؟
فالجواب : أن ظاهر النهي التحريم .
قال القفال{[58482]} : يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أحداً شيئاً لطلب عوض سواء كان العوض زائداً أو ناقصاً ، أو مساوياً ، ويكون معنى قوله تعالى { تَسْتَكْثِرُ } ، أي : طالباً للكثرة كارهاً أن ينتقص المال بسبب العطاءِ ، فيكون الاستكثار - هاهنا - عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه العبارةُ ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء ، فسمى طلب الثواب استكثاراً ، حملاً للشيء على أغلب أحواله ، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها ، فسمي الولد ربيباً ، ثم اتسع الأمر ، وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض ، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى .
قال القرطبي - رحمه الله{[58483]} - : «أظهر الأقوال قول ابن عباس " لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال " يقال : مننت فلاناً كذا ، أي : أعطيته ، ويقال للعطية : المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله ، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها ، لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع للدنيا ، ولهذا قال :«مَا لي ممَّا أفَاء اللَّهُ عليَّ إلا الخُمْسَ ، والخمس مَردُودٌ عَليْكُمْ » وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين ، ولهذا لم يورث " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.