قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } . من عدوكم ، أي : عدتكم وآلتكم من السلاح ، والحذر ، والحذر واحد ، كالمثل ، والمثل . والشبه ، والشبه .
قوله تعالى : { فانفروا } اخرجوا .
قوله تعالى : { ثبات } أي : سرايا متفرقين ، سرية بعد سرية ، والثبات جماعات في تفرقة ، واحدتها ثبة .
قوله تعالى : { أو انفروا جميعاً } أي : مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين . وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب ، التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم ، من استعمال الحصون والخنادق ، وتعلم الرمي والركوب ، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك ، وما به يعرف مداخلهم ، ومخارجهم ، ومكرهم ، والنفير في سبيل الله .
ولهذا قال : { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي : متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش ، ويقيم غيرهم { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية ، والراحة للمسلمين في دينهم ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم . فانفروا ثبات ، أو انفروا جميعا . وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي ، إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم ، فأفوز فوزا عظيما ) . .
إنها الوصية للذين آمنوا : الوصية من القيادة العليا ، التي ترسم لهم المنهج ، وتبين لهم الطريق . وإن الإنسان ليعجب ، وهو يراجع القرآن الكريم ؛ فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين - بصفة عامة طبعا - الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم " استراتيجية المعركة " . ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا : ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة ) . فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية . وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا : ( خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا ) وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى " التاكتيك " . وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات : ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) . . . الآيات .
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب ؛ ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين ! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة . ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية . . ومن ثم يطلب - بحق - الوصاية التامة على الحياة البشرية ؛ ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم ، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج ، وتحت تصرفه وتوجيهه . وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم ، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر : منهجا للحياة الشخصية ، وللشعائر والعبادات ، والأخلاق والآداب ، مستمدا من كتاب الله . ومنهجا للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية ، مستمدا من كتاب أحد آخر ؛ أو من تفكير بشري على الإطلاق ! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجة أحكاما تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة ، وأقضيتها المتطورة - بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة - ولا شيء وراء ذلك . وإلا فلا أيمان أصلا ولا إسلام . لا إيمان ابتداء ولا إسلام ، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان ، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام . وفي أولها : شهادة أن لا إله إلا الله ، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله ، وأن لا مشرع إلا الله .
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانبا من الخطة التنفيذية للمعركة ؛ المناسبة لموقفهم حينذاك . ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج . والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل . وهو يحذرهم ابتداء :
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) . .
خذو حذركم من عدوكم جميعا . وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين ، الذين سيرد ذكرهم في الآية : ( فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا ) . .
ثبات . جميع ثبة : أي مجموعة . . والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى . ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة ، أو الجيش كله . . حسب طبيعة المعركة . . ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الإعداء ، المبثوثون في كل مكان . وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي . . وهم كانوا كذلك ، ممثلين في المنافقين ، وفي اليهود ، في قلب المدينة .
وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا . .
يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم ، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله .
{ ثُبَاتٍ } أي : جماعة بعد جماعة ، وفرقة بعد فرقة ، وسرية بعد سرية ، والثبات : جمع ثُبَة ، وقد تجمع الثبة على ثُبين .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي : عُصبا يعني : سرايا متفرقين { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } يعني : كلكم .
وكذا رُوي عن مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وخُصَيف الجَزَري .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الذين آمَنُوا } صدّقوا الله ورسوله ، { خُذُوا حِذْرَكُمْ } : خذوا جُنتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوّكم لغزوهم وحربهم . { فانْفِرُوا } إليهم { ثُباتٍ } وهي جمع ثبة ، والثبة : العصبة¹ ومعنى الكلام : فانفروا إلى عدوّكم جماعة بعد جماعة متسلحين ، ومن الثّبة قول زهير :
وَقدْ أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرَامٍ ***نَشاوَى وَاجِدينَ لِمَا نَشاءُ
{ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } يقول : أو انفروا جميعا مع نبيكم صلى الله عليه وسلم لقتالهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ } يقول : عصبا ، يعني : سرايا متفرّقين ، { أوِ انْفِرُوا جَمِيعا يعني كلكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } قال : فرقا قليلاً قليلاً .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } قال : الثبات : الفرق .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } فهي العصبة ، وهي الثبة . { أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } مع النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } يعني : عصبا متفرّقين .