{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } * [ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } ]{[8748]}
قال القًرْطُبِي{[8749]} : إنه - تعالى - لمّا ذكر طاعة اللَّه وطَاعَة رسُولِهِ ، أمر أهْل الطَّاعة بالقِيَام بإحْيَاء دينهِ وإعْلاءِ دَعْوَته ، وأمَرَهُم ألاَّ يقْتَحِمُوا على عُدوِّهِم على جَهَالةٍ ، حتى يَتَحَسَّسُوا إلى ما عِنْدَهُم ويَعْلَمُون كيف يَرُدُّون عَلَيْهم ، لأن ذَلِكَ أثْبَت لَهُم .
وقال ابن الخطيب{[8750]} : لما رغَّب في طاعة اللَّهِ وطاعةِ رسُوله ، عَادَ إلى ذِكْرِ الجِهَاد ؛ لأنه أشَقُّ الطَّاعَات ، وأعْظَم الأمُور الَّتِي بها يَحْصُل تَقْوِية الدِّين ، والحَذَر والحِذْر بمعنى ؛ كالأثر والإثْر ؛ والمَثَل والمِثْل ، والشَّبَه والشِّبْه .
قيل : ولم يُسْمَع في هذا التَّرْكِيب إلا خُذْ بالكَسْرِ لا حَذَرَك .
يقال : أخَذَ حِذْرَهُ ؛ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ من المَخُوفِ ؛ كأنه جَعَلَ الحِذْرَ آلَتَهُ التي يقي بها نَفْسَه ، والمَعْنَى : احْذَرُوا واحْتَذِرُوا من العَدُّوِّ ، ولا تمكِّنُوه من أنفُسِكم .
وقال الوَاحِدِيُّ{[8751]} : فيه قَوْلاَنِ :
أحدهما : المُرَاد بالحِذْرِ [ ها ]{[8752]} هُنَا السِّلاح ، والمعنى : خُذُوا سِلاَحَكُم ، والسِّلاح يسمى حِذْراً ؛ لأنَّه يُتَّقَى ويُحْذَر .
والثاني : " خذوا حذركم " بمعنى : احْذَرُوا عَدُوَّكم ، فعلى الأوَّل : الأمْر بأخذ السِّلاح مُصَرَّحٌ به ، وعلى الثَّانِي : أخذ السِّلاح مَدْلُول{[8753]} عليه بِفَحْوَى{[8754]} الكَلامِ .
فإن قيل : إنَّ الَّذِي أمَر اللَّه - تعالى - بالحذْرِ عَنْهُ إن كان يُفْضي إلى الوُجُودِ ، لم يَنْعَدِم ، وإن كان الحذْر يُفْضِي إلى العَدَمِ ، فلا حَاجَة إلى الحذْر ، فعلى التَّقْديرَيْن الأمْر بالحذْر عَبَث{[8755]} ، قال - عليه السلام - : " المَقْدُورُ كَائِنٌ " وقيل{[8756]} : الحذر لا يُغْنِي عن القَدَر .
فالجوابُ : أن هذا الكَلاَم يُبْطِل القَوْل بالشَّرَائِع ؛ فإنه يُقَالُ : إن كان الإنْسَان من أهْلِ السَّعَادة في قَضَاءِ اللَّه وقدرِه ، فلا حَاجَة إلى الإيمَانِ ، وإن كان من أهْل الشَّقَاءِ ، لم ينْفَعْه [ الإيمانُ و ]{[8757]} الطَّاعَة ، فهذا يفضي إلى سُقُوط التَّكْلِيف بالكُلِّيّة .
واعلم أنه لما كَان الكُلُّ بِقَضَاء اللَّه - تعالى - كان الأمْر بالحَذَرِ أيْضاً دَاخلاً بالقَدَر ، وكان قَوْل القَائِل : أي فَائِدة بالحَذَر كَلاَماً مُتَنَاقِضاً ؛ لأنه لما كان هذا الحَذَر مُقَدَّراً ، فأيُّ فائدة في هَذَا السُّؤال الطَّاعِن في الحَذَرِ .
قوله : " فانفروا [ ثبات ]{[8758]} " يقال : نَفَر القَوْم يَنْفِرُون نَفْراً ونَفِيراً ، إذا نَهَضُوا لِقِتَال عَدُّوِّ{[8759]} ، وخَرَجُوا للحَرْبِ ، واستنْفَر الإمَامُ النَّاس لجِهَاد العَدُوّ ، فَنَفَرُوا يَنْفِرُون : إذا حَثَّهُم على النَّفِير{[8760]} وَدَعَاهُم إلَيْه ؛ ومنه قوله - عليه السلام - : " [ و ]{[8761]} إذا اسْتُنْفِرْتُم فانفرُوا " والنَّفِير{[8762]} : اسم للقَوْمِ الَّذِين يَنْفِرُون ؛ ومنه يُقال : فلان لاَ فِي العِيرِ ولا فِي النَّفِيرِ .
وقال النُّحَاة{[8763]} : أصْلُ هذا الحَرْف{[8764]} من النُّفُور والنِّفَارِ ؛ وهو الفَزَع ، يقال : [ نَفر ]{[8765]} إليه ؛ ونَفَر مِنْهُ ؛ إذا فَزع منه وكَرِهَهُ ، وفي مُضَارعه لُغَتَان : ضمُّ العَيْنِ وكَسْرِهَا ، وقيل : يُقَال : نَفر الرَّجُل يَنْفِرُ بالكَسْرِ ، ونَفَرَت الدَّابَّة تَنْفُر بالضَّمِّ [ ففرَّقُوا بَيْنَهُما في المُضَارع ، وهذا الفَرْق يردُّه قِرَاءَة الأعْمَش : " فانفُروا " " أو انفُروا " بالضم ]{[8766]} فيهما ، والمَصْدَر النَّفِير ، والنُّفُور ، والنَّفْر : الجماعة كالقَوْم والرَّهْط .
[ قوله ]{[8767]} : " ثبات " نصب على الحَالِ ، وكذا " جميعاً " والمَعْنَى " انْفِرُوا جَمَاعاتٍ [ متفرِّقَة ]{[8768]} [ أي ]{[8769]} سَرِيّة بعد سَرِيّة ، أو مُجْتَمِعِين كَوْكَبَةً وَاحِدَة ، وهذا{[8770]} المَعْنَى الَّذي أراد الشَّاعِر في قوله : [ البسيط ]
. . . *** طَارُوا إلَيْه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانَا{[8771]}
{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي{[8772]} : على أيّ الحَالَتَيْن كُنْتُم فَصَلُّوا .
قال أبُو حَيَّان{[8773]} : ولم يُقْرَأ " ثبات " فيما عَلِمْت{[8774]} إلا بكَسْر التَّاء . انتهى .
وهذه هي اللُّغَةُ الفَصيحَة ، وبَعْض العَرَب يَنْصِب جَمْع المُؤنَّث السَّالم إذا كان مُعْتَلَّ اللام مُعوضاً منها تاء التأنيث بالفَتْحَة{[8775]} ، وأنشد الفرَّاء : [ الطويل ]
فَلَمَّا جَلاَهَا بالأيَّام تَحَيَّزَتْ *** ثُبَاتاً عَلَيْهَا ذُلُّهَا واكْتئابُهَا{[8776]} {[8777]}
وقرئ{[8778]} شاذاً : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ } [ النحل : 57 ] [ بالفتحة ]{[8779]} ، وحكي : سَمِعْتُ لغاتَهُم ، وزعم الفَارِسي أن الوَارِدَ من ذلك مُفْردٌ ردت لامهُ ؛ لأن الأصْل " لُغَوَة " ؛ فلما رُدَّت اللام ، قُلِبَت ألفاً ، وقد رُدَّ على الفَارِسي : بأنّه يلْزَمُهُ الجَمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْه ، ويَرُدُّ عليه أيْضاً القِرَاءة المتقَدِّمة في الثبات ؛ لأن المُفْرَد منه مكْسُورُ الفَاءِ .
[ " وثبات " جَمْعُ ثُبَة ، ووزنها في الأصْل : فُعَلَة ، كَحُطَمة ، و ]{[8780]} إنما حُذِفَت لامُها وعُوض عنها تاءُ التَّأنِيثِ ، وهل لامها واواً أو يَاءً ؟ قولان :
حُجَّة القَوْل الأول : أنها مُشتقَّة من [ ثَبَا يُثْبُو ؛ كَخَلا يَخْلُو ، أي : اجْتَمع .
وحُجَّةُ القول الثاني : أنها مُشْتَقة من ]{[8781]} ثبيت على الرجل إذا أثْنيت{[8782]} عليه ؛ كأنك جمعت مَحاسنه ، وتجمع بالألفِ والتَّاءِ ، وبالوَاوِ والنَّونِ ، ويجوز في فَائِهَا{[8783]} حين تُجْمَع على " ثُبين " الضَّم والكَسْر ، وكذا ما أشْبَهَهَا ، نحو : قُلة{[8784]} ، وبُرة{[8785]} ، ما لم يُجْمَع جَمْع تكْسِير .
والثُّبَة : الجَمَاعة من الرِّجَال تكُون فَوْقَ العَشرة ، وقيل : الاثْنَانِ والثَّلاثة ، وتُصَغَّر على " ثُبْيَة " ، بردِّ المَحْذُوف ، وأما " ثُبة الحَوْضِ " وهي وَسطُهُ ، فالمحذُوفُ عَيْنُها ، لأنَّها من باب المَاء ، أي : يَرْجِع ، تُصَغِّر على " ثُوَيْبَةٍ " ؛ كقولك في تَصْغيرِ سَنَة : سُنَيْهَة .
قال القرطبي{[8786]} : قيل إن هذه الآية مَنْسُوخة بقوله : { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً }
[ التوبة : 41 ] وبقوله { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] [ ولأن يكُون ]{[8787]} { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] مَنْسُوخاً بقوله : { فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } ، وبقوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] أولى ؛ لأن فرض الجِهَادِ على الكِفْاية ، فمتى سَدَّ الثُّغُورَ{[8788]} بَعْضُ المسْلِمِين ، أسْقِطَ الفَرْضُ{[8789]} عن البَاقِينَ .
قال : والصَّحِيحُ أن الآيَتَيْنِ محكْمَتَانِ ، إحَدَاهما : في الوَقْتِ الذي يُحْتَاجُ فيه إلى تعيُّن الجَميع ، والأخْرَى : عند الاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرِهَا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.