اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا} (71)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } * [ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } ]{[8748]}

قال القًرْطُبِي{[8749]} : إنه - تعالى - لمّا ذكر طاعة اللَّه وطَاعَة رسُولِهِ ، أمر أهْل الطَّاعة بالقِيَام بإحْيَاء دينهِ وإعْلاءِ دَعْوَته ، وأمَرَهُم ألاَّ يقْتَحِمُوا على عُدوِّهِم على جَهَالةٍ ، حتى يَتَحَسَّسُوا إلى ما عِنْدَهُم ويَعْلَمُون كيف يَرُدُّون عَلَيْهم ، لأن ذَلِكَ أثْبَت لَهُم .

وقال ابن الخطيب{[8750]} : لما رغَّب في طاعة اللَّهِ وطاعةِ رسُوله ، عَادَ إلى ذِكْرِ الجِهَاد ؛ لأنه أشَقُّ الطَّاعَات ، وأعْظَم الأمُور الَّتِي بها يَحْصُل تَقْوِية الدِّين ، والحَذَر والحِذْر بمعنى ؛ كالأثر والإثْر ؛ والمَثَل والمِثْل ، والشَّبَه والشِّبْه .

قيل : ولم يُسْمَع في هذا التَّرْكِيب إلا خُذْ بالكَسْرِ لا حَذَرَك .

يقال : أخَذَ حِذْرَهُ ؛ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ من المَخُوفِ ؛ كأنه جَعَلَ الحِذْرَ آلَتَهُ التي يقي بها نَفْسَه ، والمَعْنَى : احْذَرُوا واحْتَذِرُوا من العَدُّوِّ ، ولا تمكِّنُوه من أنفُسِكم .

وقال الوَاحِدِيُّ{[8751]} : فيه قَوْلاَنِ :

أحدهما : المُرَاد بالحِذْرِ [ ها ]{[8752]} هُنَا السِّلاح ، والمعنى : خُذُوا سِلاَحَكُم ، والسِّلاح يسمى حِذْراً ؛ لأنَّه يُتَّقَى ويُحْذَر .

والثاني : " خذوا حذركم " بمعنى : احْذَرُوا عَدُوَّكم ، فعلى الأوَّل : الأمْر بأخذ السِّلاح مُصَرَّحٌ به ، وعلى الثَّانِي : أخذ السِّلاح مَدْلُول{[8753]} عليه بِفَحْوَى{[8754]} الكَلامِ .

فإن قيل : إنَّ الَّذِي أمَر اللَّه - تعالى - بالحذْرِ عَنْهُ إن كان يُفْضي إلى الوُجُودِ ، لم يَنْعَدِم ، وإن كان الحذْر يُفْضِي إلى العَدَمِ ، فلا حَاجَة إلى الحذْر ، فعلى التَّقْديرَيْن الأمْر بالحذْر عَبَث{[8755]} ، قال - عليه السلام - : " المَقْدُورُ كَائِنٌ " وقيل{[8756]} : الحذر لا يُغْنِي عن القَدَر .

فالجوابُ : أن هذا الكَلاَم يُبْطِل القَوْل بالشَّرَائِع ؛ فإنه يُقَالُ : إن كان الإنْسَان من أهْلِ السَّعَادة في قَضَاءِ اللَّه وقدرِه ، فلا حَاجَة إلى الإيمَانِ ، وإن كان من أهْل الشَّقَاءِ ، لم ينْفَعْه [ الإيمانُ و ]{[8757]} الطَّاعَة ، فهذا يفضي إلى سُقُوط التَّكْلِيف بالكُلِّيّة .

واعلم أنه لما كَان الكُلُّ بِقَضَاء اللَّه - تعالى - كان الأمْر بالحَذَرِ أيْضاً دَاخلاً بالقَدَر ، وكان قَوْل القَائِل : أي فَائِدة بالحَذَر كَلاَماً مُتَنَاقِضاً ؛ لأنه لما كان هذا الحَذَر مُقَدَّراً ، فأيُّ فائدة في هَذَا السُّؤال الطَّاعِن في الحَذَرِ .

قوله : " فانفروا [ ثبات ]{[8758]} " يقال : نَفَر القَوْم يَنْفِرُون نَفْراً ونَفِيراً ، إذا نَهَضُوا لِقِتَال عَدُّوِّ{[8759]} ، وخَرَجُوا للحَرْبِ ، واستنْفَر الإمَامُ النَّاس لجِهَاد العَدُوّ ، فَنَفَرُوا يَنْفِرُون : إذا حَثَّهُم على النَّفِير{[8760]} وَدَعَاهُم إلَيْه ؛ ومنه قوله - عليه السلام - : " [ و ]{[8761]} إذا اسْتُنْفِرْتُم فانفرُوا " والنَّفِير{[8762]} : اسم للقَوْمِ الَّذِين يَنْفِرُون ؛ ومنه يُقال : فلان لاَ فِي العِيرِ ولا فِي النَّفِيرِ .

وقال النُّحَاة{[8763]} : أصْلُ هذا الحَرْف{[8764]} من النُّفُور والنِّفَارِ ؛ وهو الفَزَع ، يقال : [ نَفر ]{[8765]} إليه ؛ ونَفَر مِنْهُ ؛ إذا فَزع منه وكَرِهَهُ ، وفي مُضَارعه لُغَتَان : ضمُّ العَيْنِ وكَسْرِهَا ، وقيل : يُقَال : نَفر الرَّجُل يَنْفِرُ بالكَسْرِ ، ونَفَرَت الدَّابَّة تَنْفُر بالضَّمِّ [ ففرَّقُوا بَيْنَهُما في المُضَارع ، وهذا الفَرْق يردُّه قِرَاءَة الأعْمَش : " فانفُروا " " أو انفُروا " بالضم ]{[8766]} فيهما ، والمَصْدَر النَّفِير ، والنُّفُور ، والنَّفْر : الجماعة كالقَوْم والرَّهْط .

[ قوله ]{[8767]} : " ثبات " نصب على الحَالِ ، وكذا " جميعاً " والمَعْنَى " انْفِرُوا جَمَاعاتٍ [ متفرِّقَة ]{[8768]} [ أي ]{[8769]} سَرِيّة بعد سَرِيّة ، أو مُجْتَمِعِين كَوْكَبَةً وَاحِدَة ، وهذا{[8770]} المَعْنَى الَّذي أراد الشَّاعِر في قوله : [ البسيط ]

. . . *** طَارُوا إلَيْه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانَا{[8771]}

ومثله قوله :

{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي{[8772]} : على أيّ الحَالَتَيْن كُنْتُم فَصَلُّوا .

قال أبُو حَيَّان{[8773]} : ولم يُقْرَأ " ثبات " فيما عَلِمْت{[8774]} إلا بكَسْر التَّاء . انتهى .

وهذه هي اللُّغَةُ الفَصيحَة ، وبَعْض العَرَب يَنْصِب جَمْع المُؤنَّث السَّالم إذا كان مُعْتَلَّ اللام مُعوضاً منها تاء التأنيث بالفَتْحَة{[8775]} ، وأنشد الفرَّاء : [ الطويل ]

فَلَمَّا جَلاَهَا بالأيَّام تَحَيَّزَتْ *** ثُبَاتاً عَلَيْهَا ذُلُّهَا واكْتئابُهَا{[8776]} {[8777]}

وقرئ{[8778]} شاذاً : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ } [ النحل : 57 ] [ بالفتحة ]{[8779]} ، وحكي : سَمِعْتُ لغاتَهُم ، وزعم الفَارِسي أن الوَارِدَ من ذلك مُفْردٌ ردت لامهُ ؛ لأن الأصْل " لُغَوَة " ؛ فلما رُدَّت اللام ، قُلِبَت ألفاً ، وقد رُدَّ على الفَارِسي : بأنّه يلْزَمُهُ الجَمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْه ، ويَرُدُّ عليه أيْضاً القِرَاءة المتقَدِّمة في الثبات ؛ لأن المُفْرَد منه مكْسُورُ الفَاءِ .

[ " وثبات " جَمْعُ ثُبَة ، ووزنها في الأصْل : فُعَلَة ، كَحُطَمة ، و ]{[8780]} إنما حُذِفَت لامُها وعُوض عنها تاءُ التَّأنِيثِ ، وهل لامها واواً أو يَاءً ؟ قولان :

حُجَّة القَوْل الأول : أنها مُشتقَّة من [ ثَبَا يُثْبُو ؛ كَخَلا يَخْلُو ، أي : اجْتَمع .

وحُجَّةُ القول الثاني : أنها مُشْتَقة من ]{[8781]} ثبيت على الرجل إذا أثْنيت{[8782]} عليه ؛ كأنك جمعت مَحاسنه ، وتجمع بالألفِ والتَّاءِ ، وبالوَاوِ والنَّونِ ، ويجوز في فَائِهَا{[8783]} حين تُجْمَع على " ثُبين " الضَّم والكَسْر ، وكذا ما أشْبَهَهَا ، نحو : قُلة{[8784]} ، وبُرة{[8785]} ، ما لم يُجْمَع جَمْع تكْسِير .

والثُّبَة : الجَمَاعة من الرِّجَال تكُون فَوْقَ العَشرة ، وقيل : الاثْنَانِ والثَّلاثة ، وتُصَغَّر على " ثُبْيَة " ، بردِّ المَحْذُوف ، وأما " ثُبة الحَوْضِ " وهي وَسطُهُ ، فالمحذُوفُ عَيْنُها ، لأنَّها من باب المَاء ، أي : يَرْجِع ، تُصَغِّر على " ثُوَيْبَةٍ " ؛ كقولك في تَصْغيرِ سَنَة : سُنَيْهَة .

فصل

قال القرطبي{[8786]} : قيل إن هذه الآية مَنْسُوخة بقوله : { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً }

[ التوبة : 41 ] وبقوله { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] [ ولأن يكُون ]{[8787]} { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] مَنْسُوخاً بقوله : { فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } ، وبقوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] أولى ؛ لأن فرض الجِهَادِ على الكِفْاية ، فمتى سَدَّ الثُّغُورَ{[8788]} بَعْضُ المسْلِمِين ، أسْقِطَ الفَرْضُ{[8789]} عن البَاقِينَ .

قال : والصَّحِيحُ أن الآيَتَيْنِ محكْمَتَانِ ، إحَدَاهما : في الوَقْتِ الذي يُحْتَاجُ فيه إلى تعيُّن الجَميع ، والأخْرَى : عند الاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرِهَا .


[8748]:سقط في ب.
[8749]:ينظر: تفسير القرطبي 5/176.
[8750]:ينظر: تفسير الرازي 10/141.
[8751]:ينظر: تفسير الرازي 10/141.
[8752]:سقط في ب.
[8753]:في أ: مذكور.
[8754]:في ب: بنحوي.
[8755]:في ب: جبب.
[8756]:في أ: وقوله.
[8757]:سقط في ب.
[8758]:سقط في أ.
[8759]:في ب: عدوهم.
[8760]:في أ: السفر.
[8761]:سقط في ب.
[8762]:في أ: والنقرة.
[8763]:ينظر: تفسير الرازي 10/142.
[8764]:في ب: الاسم.
[8765]:سقط في أ.
[8766]:سقط في ب.
[8767]:سقط في أ.
[8768]:سقط في ب.
[8769]:سقط في أ.
[8770]:في ب: وهو.
[8771]:عجز بيت لقريط بن أنيف وصدره: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ينظر: الخصائص 2/270، وشرح الحماسة 1/27، ومجالس ثعلب 2/405، والفخر الرازي 10/142، وروح المعاني 7/143، والدر المصون 3/52.
[8772]:في ب: أو.
[8773]:ينظر: البحر المحيط 3/302.
[8774]:في ب: علمته.
[8775]:في ب: بالنحور.
[8776]:في ب: ولها وكسابها.
[8777]:البيت لأبي ذؤيب ينظر ديوان الهذليين 1/79 وابن يعيش 5/4 والخصائص 3/304 والدر المصون 2/389، والبحر المحيط 3/302.
[8778]:ينظر: الدر المصون 2/389، وستأتي في النحل آية (57).
[8779]:سقط في ب.
[8780]:في ب: هو.
[8781]:سقط في ب.
[8782]:في ب: ثنيت.
[8783]:في ب: بائها.
[8784]:القلة: عود يجعل في وسطه حبل، ثم يدفن، ويجعل للحبل كفة فيها عيدان، فإذا وطأ الظبي عليها عضت على أطراف أكارعه. اللسان (قلا).
[8785]:البرة: الخلخال، وهي أيضا: الحلقة في أنف البعير، وقيل: هي الحلقة من صفر، أو غيره تجعل في لحم أنف البعير. اللسان (بري).
[8786]:ينظر: تفسير القرطبي 5/178.
[8787]:سقط في ب.
[8788]:في أ: الثغر.
[8789]:في ب: الحرج.