الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا} (71)

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم " هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع . ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله ، أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته ، وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم ، ويعلموا كيف يردون عليهم ، فذلك أثبت لهم فقال : " خذوا حذركم " فعلمهم مباشرة الحروب . ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام{[4615]} عين التوكل كما تقدم في " آل عمران{[4616]} " ويأتي . والحِذْرُ والحَذَرُ لغتان كالمثل والمثل . قال القراء : أكثر الكلام الحذر ، والحذر مسموع أيضا ، يقال : خذ حذرك ، أي احذر . وقيل : خذوا السلاح حذرا ؛ لأنه به الحذر والحذر لا يدفع القدر .

الثانية : خلافا للقدرية في قولهم : إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء ، ولو لم يكن كذلك ما كان لأمرهم بالحذر معنى . فيقال لهم : ليس في الآية دليل على أن الحذر ينفع من القدر شيئا ، ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ؛ ومنه الحديث ( اعقلها وتوكل ) . وإن كان القدر جاريا على ما قضى ، ويفعل الله ما يشاء ، فالمراد منه طمأنينة النفس ، لا أن ذلك ينفع من القدر وكذلك أخذ الحذر . الدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا{[4617]} " [ التوبة : 51 ] فلو كان يصيبهم غير ما قضى عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى .

الثالثة : قوله تعالى : " فانفروا ثبات " يقال : نفر ينفر ( بكسر الفاء ) نفيرا . ونفرت الدابة تنفر ( بضم الفاء ) نفورا ، المعنى : انهضوا لقتال العدو . واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر ، أي للخروج إلى قتال العدو . والنفير اسم للقوم الذين ينفرون ، وأصله من النفار والنفور وهو الفزع ، ومنه قوله تعالى : " ولوا على أدبارهم نفورا{[4618]} " [ الإسراء : 46 ] أي نافرين . ومنه نفر الجلد أي ورم . وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم . قال أبو عبيد : إنما هو من نفار الشيء من الشيء وهو تجافيه عنه وتباعده منه . قال ابن فارس : النفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة . والنفير النفر أيضا ، وكذلك النفر والنفرة ، حكاها الفراء بالهاء . ويوم النفر : يوم ينفر الناس عن منى . " ثبات " معناه جماعات متفرقات . ويقال : ثبين يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير . قال عمرو بن كلثوم :

فأما يوم خشيتِنا عليهم *** فتصبح خيلنا عُصَبا{[4619]} ثُبِينَا

كناية عن السرايا ، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس . وكانت في الأصل الثبية . وقد ثبيت الجيش جعلتهم ثبة ثبة . والثبة : وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال النحاس : وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد ، وأن أحدهما من الآخر ، وبينهما فرق ، فثبة الحوض يقال في تصغيرها : ثويبة ؛ لأنها من ثاب يثوب . ويقال في ثبة{[4620]} الجماعة : ثيبة . قال غير : فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل ، وثبة الجماعة معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو . ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض ؛ لأن الماء إذا ثاب اجتمع ؛ فعلى هذا تصغر به الجماعة ثوبية فتدخل إحدى الياءين في الأخرى . وقد قيل : إن ثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع .

الرابعة : قوله تعالى : " أو انفروا جميعا " معناه الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام ؛ قاله ابن عباس وغيره . ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم ، عضدا من ورائهم ، وربما احتاجوا إلى درئه . وسيأتي حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في " الأنفال{[4621]} " و " براءة{[4622]} " [ التوبة ] إن شاء الله تعالى .

الخامسة : ذكر ابن خويز منداد : وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : " انفروا خفافا وثقالا " وبقوله : " إلا تنفروا يعذبكم " [ التوبة :39 ] ؛ ولأن يكون " انفروا خفافا وثقالا " [ التوبة :41 ] منسوخا بقوله : " فانفروا ثبات أو انفروا جميعا " و بقوله : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " [ التوبة :122 ] أولى ؛ لأن فرض الجهاد تقرر على الكفاية ، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين . والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان ، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع ، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها .


[4615]:في ج و ط و ز.
[4616]:راجع ج 4 ص 189.
[4617]:راجع ج 8 ص 159.
[4618]:راجع ج 10 ص 271.
[4619]:العصب (جمع عصبة): الجماعات.
[4620]:من النحاس.
[4621]:راجع ج 7 ص 380 و ص 40 فما بعد ج 8.
[4622]:راجع ج 8 ص 140 فما بعد، وص 266 فما بعد، وص 293 فما بعد.