ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال : { تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } أي : هي أعلى الآيات وأقوى البينات وأوضح الدلالات وأبينها على أجل المطالب وأفضل المقاصد ، وخير الأعمال وأزكى الأخلاق ، آيات تدل على الأخبار الصادقة والأوامر الحسنة والنهي عن كل عمل وخيم وخلق ذميم ، آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة مبلغ الشمس للأبصار ، آيات دلت على الإيمان ودعت للوصول إلى الإيقان ، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة ، على طبق ما كان ويكون . آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة ، آيات عرفتنا برسله وأوليائه ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا ، ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ولم يهتد بها جميع المعاندين صونا لها عن من لا خير فيه ولا صلاح ولا زكاء في قلبه ، وإنما اهتدى بها من خصهم الله بالإيمان واستنارت بذلك قلوبهم وصفت سرائرهم .
سورة النمل مكية وآياته ثلاث وتسعون
هذه السورة مكية نزلت بعد الشعراء ؛ وهي تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه ؛ وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع ، ويؤكده ، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم ، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات .
وموضوع السورة الرئيسي - كسائر السور المكية - هو العقيدة : الإيمان بالله ، وعبادته وحده ، والإيمان بالآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب . والإيمان بالوحي وأن الغيب كله لله ، لا يعلمه سواه . والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم ؛ وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر . والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله ، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله .
ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني ؛ وتصوير عاقبة المكذبين بها ، وعاقبة المؤمنين .
تأتي حلقة من قصة موسى - عليه السلام - تلي مقدمة السورة . حلقة رؤيته النار وذهابه إليها ، وندائه من الملأ الأعلى ، وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه . ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها وعاقبة التكذيب مع اليقين . . ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) . وكذلك شأن المشركين في مكة كان مع آيات القرآن المبين .
وتليها إشارة إلى نعمة الله على دواد وسليمان - عليهما السلام - ثم قصة سليمان مع النملة ، ومع الهدهد ، ومع ملكة سبأ وقومها . وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة . وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان . وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول . ويبرز بصفة خاصة استقبال ملكة سبأ وقومها لكتاب سليمان - وهو عبد من عباد الله - واستقبال قريش لكتاب الله . هؤلاء يكذبون ويجحدون . وأولئك يؤمنون ويسلمون . والله هو الذي وهب سليمان ما وهب ، وسخر له ما سخر . وهو الذي يملك كل شيء ، وهو الذي يعلم كل شيء . وما ملك سليمان وما علمه إلا قطرة من ذلك الفيض الذي لا يغيض .
وتليها قصة صالح مع قومه ثمود . ويبرز فيها تآمر المفسدين منهم عليه وعلى أهله ، وتبييتهم قتله ؛ ثم مكر الله بالقوم ، ونجاة صالح والمؤمنين معه ، وتدمير ثمود مع المتآمرين : ( فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ) . . وقد كانت قريش تتآمر على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتبيت له ، كما بيتت ثمود لصالح وللمؤمنين .
ويختم القصص بقصة لوط مع قومه . وهمهم بإخراجه من قريتهم هو والمؤمنون معه ، بحجة أنهم أناس يتطهرون ! وما كان من عاقبتهم بعد إذ هاجر لوط من بينهم ، وتركهم للدمار : ( وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ) . . ولقد همت قريش بإخراج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتآمرت في ذلك قبل هجرته من بين ظهرانيهم بقليل .
فإذا انتهى القصص بدأ التعقيب بقوله : ( قل : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . آلله خير أما يشركون ? ) . . ثم أخذ يطوف معهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس . يريهم يد الصانع المدبر الخالق الرازق ، الذي يعلم الغيب وحده ، وهم إليه راجعون . ثم عرض عليهم أحد أشراط الساعة وبعض مشاهد القيامة ، وما ينتظر المكذبين بالساعة في ذلك اليوم العظيم .
ويختم السورة بإيقاع يناسب موضوعها وجوها : ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء ، وأمرت أن أكون من المسلمين . وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل : إنما أنا من المنذرين . وقل : الحمد لله . سيريكم آياته فتعرفونها ، وما ربك بغافل عما تعملون ) . .
والتركيز في هذه السورة على العلم . علم الله المطلق بالظاهر والباطن ، وعلمه بالغيب خاصة . وآياته الكونية التي يكشفها للناس . والعلم الذي وهبه لداود وسليمان . وتعليم سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم . . ومن ثم يجيء في مقدمة السورة : ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) . ويجيء في التعقيب ( قل : لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون . بل ادارك علمهم في الآخرة ) . . ( وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون . وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين )ويجيء في الختام : ( سيريكم آياته فتعرفونها ) . . ويجيء في قصة سليمان : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا : الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) . . وفي قول سليمان : ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير ) . . وفي قول الهدهد : ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ) . وعندما يريد سليمان استحضار عرش الملكة ، لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن ، إنما يقدر على هذه : ( الذي عنده علم من الكتاب ) .
وهكذا تبرز صفة العلم في جو السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كله من المطلع إلى الختام . ويمضي سياق السورة كله في هذا الظل ، حسب تتابعه الذي أسلفنا . فنأخذ في استعراضها تفصيلا .
( طا . سين ) . . الأحرف المقطعة للتنبيه على المادة الأولية التي تتألف منها السورة والقرآن كله . وهي متاحة لجميع الناطقين بالعربية . وهم يعجزون أن يؤلفوا منها كتابا كهذا القرآن ، بعد التحدي والإفحام . .
( تلك آيات القرآن وكتاب مبين ) . .
والكتاب هو نفسه القرآن . وذكره بهذه الصفة هنا يبدو لنا أنه للموازنة الخفية بين استقبال المشركين للكتاب المنزل عليهم من عند الله ؛ واستقبال ملكة سبأ وقومها للكتاب الذي أرسله إليهم سليمان . وهو عبد من عباد الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.