قوله تعالى : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنة ، وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله { ولا تنس نصيبك من الدنيا } قال مجاهد ، وابن زيد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة . وقال السدي : بالصدقة وصلة الرحم . وقال علي : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن شاذان ، أنبأنا أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي ، أنبأنا حسين المروزي ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا جعفر بن برقان ، عن زياد بن الجراح ، عن عمرو بن ميمون الأزدي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لرجل وهو يعظه : " اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك " الحديث صحيح مرسل . قال الحسن : أمر أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه ، قال منصور بن زاذان في قوله : { ولا تنس نصيبك من الدنيا } قال : قوتك وقوت أهلك . { وأحسن كما أحسن الله إليك } أي : أحسن بطاعة الله كما أحسن الله إليك بنعمته . وقيل : أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك ، { ولا تبغ }لا تطلب{ الفساد في الأرض } وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ، { إن الله لا يحب المفسدين } .
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال ، فابتغ بها ما عند اللّه ، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات ، وتحصيل اللذات ، { وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك ، { وَأَحْسَنُ } إلى عباد اللّه { كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } بهذه الأموال ، { وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } بالتكبر والعمل بمعاصي اللّه والاشتغال بالنعم عن المنعم ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة .
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ) . . وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم . المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا ، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ؛ وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها ، فتنمو الحياة وتتجدد ، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة ، فلا ينحرفون عن طريقها ، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى .
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان ، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة ، التي لا حرمان فيها ، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .
( وأحسن كما أحسن الله إليك ) . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف ، والإحسان به إلى الخلق ، وإحسان الشعور بالنعمة ، وإحسان الشكران .
( ولا تبغ الفساد في الأرض ) . . الفساد بالبغي والظلم . والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة . والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء والفساد بإنفاق المال في غير وجه أو إمساكه عن وجهه على كل حال .
وقوله : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة ، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات ، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة . { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : مما أباح الله فيها{[22406]} من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك حقًّا ، ولنفسك عليك حقًّا ، ولأهلك عليك حقًّا ، ولزورك عليك حقا ، فآت كل ذي حق حقه .
{ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ } أي : لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض{[22407]} ، وتسيء إلى خلق الله { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.