الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (77)

قوله تعالى : " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة " أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة . فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي

" ولا تنس نصيبك من الدنيا " اختلف فيه . فقال ابن عباس والجمهور : لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك ؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة . وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ، ونظرك لعاقبة دنياك فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة . قاله ابن عطية .

قلت : وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . وعن الحسن : قدم الفضل ، وأمسك ما يبلغ . وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف . وقيل : أراد بنصيبه الكفن فهذا وعظ متصل . كأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر :

نصيبُك مما تجمع الدهرَ كلَّه *** رداءان تُلْوَى فيهمَا وحَنُوطُ

وقال آخر :

وهي القناعة لا تبغي بها بدلا *** فيها النعيم وفيها راحة البدن

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير القطن والكفن

قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال ، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا .

" وأحسن كما أحسن الله إليك " أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك ومنه الحديث : ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) وقيل : هو أمر بصلة المساكين قال ابن العربي : فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله . وقال مالك : الأكل والشرب من غير سرف . قال ابن العربي : أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف . فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء ، ويشرب العسل ، ويستعمل الشواء ، ويشرب الماء البارد وقد مضى هذا المعنى في غير موضع . " ولا تبغ الفساد في الأرض " أي لا تعمل بالمعاصي " إن الله لا يحب المفسدين " .