نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (77)

ولما كان ترك الفرح سبباً للزهد ، وهو سبب القرب إلى الله ، كان كأنه قيل : وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين { وابتغ } أي اطلب طلباً تجهد نفسك فيه { فيما آتاك الله } أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك { الدار الآخرة } بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفاً له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حياً بذلك الابتغاء ، فلا يكون منه شيء بغير حياة ، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال ، وكل ما فيها إلى زوال ، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال .

ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا : { ولا تنس } أي تترك ترك الناسي { نصيبك من الدنيا } ترك المنسي ، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها ، وليكن استعمالك لذلك - كما دل عليه السياق - من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف ؛ وعن علي رضي الله عنه : ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة .

ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد ، وكانت النفس مجبولة على الشره ، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير ، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا : { وأحسن } أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج ، والإنفاق في جميع الطاعات { كما أحسن الله } أي الجامع لصفات الكمال ، المتردي برداء العظمة والجلال { إليك } بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك .

ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف ، قالوا : { ولا تبغ } أي لا ترد إرادة ما { الفساد في الأرض } بتقتير ولا تبذير ، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير ، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا ، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب ، فقيل : { إن الله } أي العالم بكل شيء ، القدير على كل شيء { لا يحب المفسدين* } أي لا يعاملهم معاملة من يحبه ، فلا يكرمهم .