قوله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } ، وكان تزيينه أن قريشاً لما اجتمعت للسير ، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته ، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . قوله تعالى : { وقال } ، لهم .
قوله تعالى : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } ، أي : مجير لكم من كنانة . قوله تعالى : { فلما تراءت الفئتان } ، أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء ، وعلم أنه لا طاقة له بهم .
قوله تعالى : { نكص على عقبيه } ، قال الضحاك : ولى مدبراً ، وقال النضر بن شميل : رجع القهقرى على قفاه هارباً ، قال الكلبي : لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة ، آخذاً بيد الحارث ابن هشام ، فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : أفراراً من غير قتال ؟ فجعل يمسكه ، فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : بلغني أنكم تقولون : إني هزمت الناس ، فوالله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغني هزيمتكم ، فقالوا : أما أتيتنا في يوم كذا ؟ فحلف لهم ، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان قال الحسن في قوله { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } قال : رأى إبليس جبريل معتجراً ببرد ، يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي يده اللجام يقود الفرس ، ما ركب بعد ، وقال قتادة : كان إبليس يقول : إني أرى ما لا ترون وصدق . وقال { إني أخاف الله } ، وكذب والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم ، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه ، إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم . وقال عطاء : إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك ، وقال الكلبي : خاف أن يأخذه جبريل عليه السلام ويعرف حاله فلا يطيعوه ، وقيل : معناه إني أخاف الله أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمره .
قوله تعالى : { والله شديد العقاب } . وقيل : معناه إني أخاف الله عليكم { والله شديد العقاب } قيل : انقطع الكلام عند قوله { أخاف الله } ثم يقول الله : { والله شديد العقاب } . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن إبراهيم بن أبي علية ، عن طلحة بن عبد الله بن كريز ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام ، إلا ما كان من يوم بدر ، فقيل : وما رأى يوم بدر ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة ) . هذا حديث مرسل .
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ْ } حسَّنها في قلوبهم وخدعهم . { وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ْ } فإنكم في عَدَدٍ وعُدَدٍ وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه .
{ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ْ } من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته ، لأن إبليس قد تبدَّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم .
فقال لهم الشيطان : أنا جار لكم ، فاطمأنت نفوسهم وأتوا على حرد قادرين .
{ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ْ } المسلمون والكافرون ، فرأى الشيطان جبريل عليه السلام يزع الملائكة خاف خوفا شديدا و { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ْ } أي : ولى مدبرا . { وَقَالَ ْ } لمن خدعهم وغرهم : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ْ } أي : أرى الملائكة الذين لا يدان لأحد بقتالهم .
{ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ْ } أي : أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }
ومن المحتمل أن يكون الشيطان ، قد سول لهم ، ووسوس في صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، وأنه جار لهم ، فلما أوردهم مواردهم ، نكص عنهم ، وتبرأ منهم ، كما قال تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ْ }
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار :
( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ، وقال : إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ) . .
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ؛ ليس من بينها حديث عن رسول الله [ ص ] إلا ما رواه مالك في الموطأ : حدثنا أحمد بن الفرج ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، قال : حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز : أن رسول الله [ ص ] قال : " ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر " ! قالوا : يا رسول الله وما رأى يوم بدر ? قال : " أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة " . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبدالعزيز بن الماجشون ، وهو ضعيف الحديث ، والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين : " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله [ ص ] قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس ، فلما رآه ، وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، تزعم أنك لنا جار ? قال : ( إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب )وذلك حين رأى الملائكة .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف كنانة ، فقال :
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم )إلى قوله : ( شديد العقاب ) قال : ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة ، وقال : ( إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ) . . وكذب والله عدو الله ، ما به مخافة الله ، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم ، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ؛ وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - ( نكص على عقبيه وقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ) . . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم ، ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم ، والتي قال لهم بها : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك . .
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ؛ ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .
فإلى هنا ينتهي اجتهادنا . ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم . وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية :
( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ) . . أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين ، إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم : لا غالب لكم اليوم من الناس ، لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب ، فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا ، وإني مع هذا - أو والحال أني - جار لكم . قال البيضاوي في تفسيره : وأوهمهم أن اتباعهم إياه ، فيما يظنون أنها قربات ، مجير لهم ، حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين " .
( فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ) . . أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر ، وصار بحيث يراه ويعرف حاله ، وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه ، نكص : أي رجع القهقرى ، وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين [ أي مؤخري الرجلين ] وأخطأ من قال من المفسرين : إن المراد بالترائي التلاقي - والمراد : أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ؛ وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره . ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم ، وتركه إياهم وشأنهم وهو [ وقال : إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ] أي تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة [ والله شديد العقاب ] يجوزأن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفاً " .
. . . " أقول : معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم ؛ كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم . . . " .
وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين ؛ وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى : ( فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان )- وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين . . هو منهج تلك المدرسة بجملتها . . ومثله تفسير " الطير الأبابيل " بأنها ميكروبات الجدري ! في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم . . هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية ؛ حيث لا ضرورة لهذا التأويل ، لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها . . وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة . . وهو المنهج الذي اتخذناه فعلاً . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس}، وذلك أنه بلغهم أن العير قد نجت، فأرادوا الرجوع إلى مكة، فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني، من بنى مدلج بن الحارث، فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل، فتأمن عيركم، ويسير ضعيفكم، {وإني جار لكم} على بنى كنانة، أنكم لا تمرون بحي منهم إلا أمدكم بالخيل والسلاح والرجال، فأطاعوه ومضوا إلى بدر لما أراد الله من هلاكهم، فلما التقوا نزلت ملائكة ببدر مددا للمؤمنين، عليهم جبريل، عليه السلام، ولما رأى إبليس ذلك، نكص على عقبيه، يقول: استأخر وراءه.
فذلك قوله: {فلما تراءت الفئتان} فئة المشركين، {نكص على عقبيه}، يقول: استأخر وراءه، وعلم أنه لا طاقة له بالملائكة، فأخذ الحارث بن هشام بيده، فقال: يا سراقة، على هذا الحال تخذلنا؟ {وقال} إبليس: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون}، فقال الحارث: والله ما نرى إلا خفافيش يثرب، فقال إبليس: {إني أخاف الله والله شديد العقاب}: وكذب عدو الله ما كان به الخوف، ولكن خذلهم عند الشدة، فقال الحارث لإبليس وهو في صورة سراقة: فهلا كان هذا أمس، فدفع إبليس في صدر الحارث، فوقع الحارث، وذهب إبليس هاربا، فلما انهزم المشركون، قالوا: انهزم بالناس سراقة، وهو بعض الصف، فلما بلغ سراقة سار إلى مكة فقال: بلغني أنكم تزعمون بأني انهزمت بالناس فوالذي يحلف به ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، قالوا له: ما أتيتنا يوم كذا وكذا، فحلف بالله لهم أنه لم يفعل، فلما أسلموا علموا أنما ذلك الشيطان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أَعمالَهُمْ" وحين زين لهم الشيطان أعمالهم.
وكان تزيينه ذلك لهم كما [روي]... عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر يعني من الحرب فكاد ذلك أن يثبطهم، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجيّ، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا.
... قال ابن إسحاق، في قوله: "وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِب لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاسِ وإنّي جارٌ لَكُمْ "فذكر استدراج إبليس إياهم وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب التي كانت بينهم. يقول الله: "فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ" ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوّهم، "نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إني أرَى ما لا ترون" وصدق عدوّ الله أنه رأى ما لا يرون. وقال: "إنّي أخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ"، فأوردهم ثم أسلمهم... وكذب والله عدوّ الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوّة له ولا منعة له، وتلك عادة عدوّ الله لمن أطاعه واستعاذ به، حتى إذا التقى الحقّ والباطل أسلمهم شرّ مسلم وتبرأ منهم عند ذلك...
فتأويل الكلام: وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم أيها المؤمنون لحربكم وقتالكم، وحّسن ذلك لهم، وحثهم عليكم وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم، فاطمئنوا وأبشروا، وإني جار لكم من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فتغيركم أجيركم وأمنعكم منهم، ولا تخافوهم، واجعلوا جدّكم وبأسكم على محمد وأصحابه. "فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ" يقول: فما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين، ونظر بعضهم إلى بعض "نَكَصَ على عَقِبَيْهِ" يقول: رجع القهقرى على قفاه هاربا... وقال للمشركين "إنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنّي أرَى ما لا تَرَوْنَ" يعني: أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددا للمؤمنين، والمشركون لا يرونهم "إنّي أخَافُ" عقاب الله، وكذب عدوّ الله. "والله شَدِيدُ العِقَابِ".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{و} اذكر {إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...وقوله {على عقبيه} يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله، وقوله {إني بريء منكم} هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم، وقوله {إني أرى ما لا ترون} يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرَّ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم: لا غالب لكم اليوم من الناس لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا، وإني مع هذا أو الحال إني جار لكم، قال البيضاوي في تفسيره: وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين. اه.
{فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه} أي فلما قرب كل من الفريقين المقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه نكص أي رجع القهقرى وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين (أي مؤخري الرجلين) وأخطأ من قال من المفسرين إن المراد بالترائي التلاقي، والمراد إنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره. ثم زاد على هذا ما يدل على براءته وتركه إياهم وشأنهم وهو {وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة {والله شديد العقاب} يجوز أن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفا.
تفسير الآية بوسوسة الشيطان وإغوائه للمشركين وتغريره بهم قبل تقابل الصفوف وترائي الزحوف وبتخليه عنهم بعد ذلك رواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن البصري، وخرجه علماء البيان من المفسرين كالزمخشري والبيضاوي بنحو مما ذكرنا وهو لا يخلو من تكلف من الجمل الأخيرة إلا أن يقال إنه لما نكص على عقبيه تبرأ منهم وقال ما قال في نفسه لا لهم، ومثل هذا الخطاب لا يتوقف على سماع المخاطبين له حتى في خطاب الناس بعضهم لبعض ومثله قوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله} [الحشر:16] قال ابن عباس لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم، وإني جار لكم. فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة (نكص على عقبيه) قال رجع مدبرا وقال (إني أرى مالا ترون) الآية. ومثله قال الحسن.
أقول: معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم كما تقدم شرحه في تفسير آية 12 {إذ يوحي ربك إلى الملائكة} الخ فلما تراءت الفئتان وأوشك أن يتلاحما فر الشيطان بجنوده من بين المشركين لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين وهما ضدان لا يجتمعان ولو اجتمعوا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما، فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... ونحن -على منهجنا في هذه الظلال- لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر. فهي من أمور الاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته. ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض..
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم؛ وأنه بعد ذلك -لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر- (نكص على عقبيه وقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب).. فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم، ولم يوف بعهده معهم..
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم، والتي قال لهم بها: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك..
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب؛ ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم. والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث..