البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

نكص قال النضر بن شميل : رجع القهقرى هارباً ، وقال غيره : هذا أصله ثم استعمل في الرجوع من حيث جاء .

وقال الشاعر :

هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا *** لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا

ويقال أراد أمراً ثم نكص عنه .

وقال تأبط شرّاً :

ليس النكوص على الأدبار مكرمة *** إنّ المكارم إقدام على الأسل

ليس هنا قهقرى بل هو فرار ، وقال مؤرج : نكص رجع بلغة سليم .

{ أعمالهم } ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التزيين والقول والنكوص هل ذلك على سبيل المجاز أو الحقيقة قولان للمفسرين بدأ الزمخشري بالأوّل فقال : وسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون وأوهمهم أنّ اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما تحبرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم انتهى ، ويكون ذلك من باب مجاز التمثيل ، وقال المهدويّ يضعف هذا القول إنّ قوله : { وإنّي جار لكم } ليس مما يلقى بالوسوسة انتهى ، ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ونسب ذلك إلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة والجمهور على أنّ إبليس تصور لهم فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية ، وقيل جاءهم في طريقهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم وكان من أشراف كنانة فقال : ما حكى الله عنه ومعنى { جار لكم } مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص ، وقيل كانت يده في يد الحارث بن هشام فلما نكص قال له الحرث : إلى أن أتخذ لنا في هذه الحال فقال { إني أرى ما لا ترون } ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة بن مالك فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان .

وفي الموطأ وغيره ما رؤي الشيطان في يوم قل ولا أحقر ولا أصغر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر قيل : وما رأى يا رسول الله قال : رأى الملائكة يريحها جبريل ، وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام و { لكم } ليس متعلقاً بقوله : { لا غالب } لأنه كان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولاً والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أي كائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف و { اليوم } عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله { وإني جار لكم } معطوفاً على { لا غالب لكم اليوم } ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي و { الفئتان } جمعاً المؤمنين والكافرين ، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة { نكص على عقبيه } رجع في ضد إقباله وقال : { إني بريء منكم } مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتفِ بالفعل حتى أكد ذلك بالقول { ما لا ترون } رأي خرق العادة ونزول الملائكة { إني أخاف الله } ، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف الله قط ، وقال الزجاج وغيره : بل خاف مما رأى من الهول إنه يكون اليوم الذي أنظر إليه انتهى وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } ويحتمل أنّ يكون { والله شديد العقاب } معطوفاً على معمول القول قال : ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحقق أنّ عذاب الله شديد ويحتمل أن يكون من كلام الله استأنف تهديداً لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش .