لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

قوله سبحانه تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } يعني اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذا زين الشيطان يريد إبليس للمشركين أعمالهم الخبيثة { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } قال بعضهم : كان تزيينه وسوسة ألقاها في قلوبهم من غير أن يتحول في صورة غير صورته . وقال جمهور المفسرين : تصور إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان تزيينه أن قريشاً لما أجمعت على المسير إلى بدر ذكرت الذي بينها وبين بكر بن الحرث من الحروب فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشرف بين كنانة ، فقال : أنا جار لكم من أن يأتيكم من كنانة شيء تكرهونه فخرجوا سراحاً . وقال ابن عباس : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من رجال بني مدلج سراقة بن مالك بن جعشم فقال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين . وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس ، لعنه الله فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته ، فقال الرجال يا سراقة أتزعم أنك جار لنا ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة . وقوله : إني جار لكم ، يعني مجير لكم من كنانة { فلما تراءت الفئتان } أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء فعلم عدو الله إبليس أنه لا طاقة له بهم { نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم } يعني رجع القهقرى وولى مدبراً هارباً على قفاه ، وقال الكلبي : لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو آخذ بيد الحرث بن هشام فنكص عدو الله إبليس على عقبيه فقال له الحرث : أفراراً من غير قتال ؟ وجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق فانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة . فبلغ ذلك سراقة فقال : بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم . فقالوا : أما أتيتنا في يوم كذا وكذا فحلف لهم ، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان شيطاناً قال الحسن في قوله : { إني أرى ما لا ترون } قال : رأى إبليس جبريل عليه السلام معتجراً ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب . وقال قتادة : قال إبليس إني أرى ما لا ترون وصدق وقال : إني أخاف الله وكذب ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منفعة فأوردهم وأسلمهم وتلك عادة عدو الله إبليس لمن أطاعه إذ التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقيل إنه خاف أن يهلك فيمن هلك وقيل خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله فلا يطيعوه وقيل معناه { إني أخاف الله } أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمر ربه وقيل لما رأى الملائكة قد نزلت من السماء خاف أن تكون القيامة { والله شديد العقاب } قيل معناه إني أخاف الله لأنه شديد العقاب فعلى هذا يكون من تمام قول إبليس . وقيل : تم كلامه عند قوله : إني أخاف الله . وقوله تعالى : والله شديد العقاب ابتداء كلام . يقول الله سبحانه وتعالى : والله شديد العقاب لمن خالف الله وكفر به . عن طلحة بن عبيد الله بن كرز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة » أخرجه مالك في الموطأ . قوله : ولا أدحر هو بالدال والحاء المهملتين من الدحور ، وهو الإبعاد والطرد مع الإهانة . وقوله : يزع الملائكة ، أي يكفهم ويحبسهم لئلا يتقدم بعضهم على بعض . والوازع : هو الذي يتقدم ويتأخر في الصف ليصلحه .

فإن قلت : كيف يقدر إبليس على أن يتصور بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً ؟

قلت : إن الله عز وجل أعطاه قوة وأقدره على ذلك كما أعطى الملائكة قوة أقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنة لم تتغير فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة .