{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ } أي : كيف تعجبون من حالة لا ينبغي العجب منها ، وهو أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة ، على يد رجل منكم ، تعرفون حقيقته وصدقه وحاله ؟ " فهذه الحال من عناية اللّه بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر ، وقوله : { لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : لينذركم العذاب الأليم ، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا ، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة اللّه الواسعة .
ونلمح هنا فجوة في السياق . . فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم ، يحمله رسالة إلى قومه ، وأن يجد هذا الرسول في نفسه علماً عن ربه لا يجده الآخرون ، الذين لم يختاروا هذا الاختيار . . هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها :
( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون ؟ . . )
وما من عجب في هذا الاختيار . فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب . . إنه يتعامل مع العوالم كلها ، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه . . فإذا اختار الله من بينه رسوله - والله أعلم حيث يجعل رسالته - فإنما يتلقى هذا المختار عنه ، بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه ، بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان ، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين .
ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة :
( لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون ) . .
فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى ، ليظفروا في النهاية برحمة الله . . ولا شيء وراء ذلك لنوح ، ولا مصلحة ، ولا هدف ، إلا هذا الهدف السامي النبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رّبّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتّقُواْ وَلَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
وهذا أيضا خبر من الله عزّ ذكره عن قيل نوح لقومه أنه قال لهم إذْ ردّوا عليه النصيحة في الله ، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيّا ، وقالوا له : ما نَرَاكَ إلاّ بَشَرا مِثْلَنا وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بادِيَ الرأيِ وَما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كاذبِينَ : أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول : أو عجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعظة ، يذكركم بما أنزل ربكم على رجل منكم . قيل : معنى قوله : على رَجُلٍ منْكُمْ مع رجل منكم لِيُنْذِرَكُمْ يقول : لينذركم بأس الله ، ويخوّفكم عقابه على كفركم به . وَلِتَتّقُوا يقول : وكي تتقوا عقاب الله وبأسه ، بتوحيده وإخلاص الإيمان به والعمل بطاعته . ولَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول : وليرحمكم ربكم إن اتّقيتم الله وخفتموه وحذّرتم بأسه . وفُتحت الواو من قوله : أوَ عَجِبْتُمْ لأنها واو عطف دخلت عليها ألف استفهام .
قولهّ : { أو عجبتم } بمنزلة المنع لقضية قولهم : { إنا لَنَراك في ضلالٍ مبين } [ الأعراف : 60 ] لأنّ قولهم ذلك بمنزلة مقدمةِ دليل على بطلان ما يدعوهم إليه .
وحقيقة العَجَب أنّه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوفٍ ، وقد يكون العجب مشوباً بإنكار الشّيء المتعجب منه واستبعاده واحالته ، كما في قوله تعالى : { بل عَجِبُوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً ذلك رَجْع بعيد } [ ق : 2 ، 3 ] وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى : { وإنْ تَعْجَب فَعَجَبٌ قولهم أإذا كنا تراباً إنَّا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربّهم } [ الرعد : 5 ] والذي في هذه الآية كناية عن الإنكار كما في قوله تعالى : { قالوا أتَعْجَبين من أمر الله } [ هود : 73 ] أنكروا عليها أنّها عدت ولادتها ولَدا ، وهي عَجوز ، مُحالاً .
وتنكير { ذِكْرٌ } و { رَجُلٍ } للنّوعية إذ لا خصوصية لذِكْر دون ذِكْر ولا لِرَجُل دون رَجل ، فإنّ النّاس سواء ، والذّكْر سواء في قبوله لمن وفقه الله ورده لمن حُرم التّوفيقَ ، أي هذا الحدث الذي عظمتموه وضجِجتم له ما هو إلاّ ذِكْر من ربّكم على رَجُل منكم . ووصْفُ { رجل } بأنّه منهم ، أي من جنسهم البشري فضحٌ لشبهتهم ، ومع ما في هذا الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضاً ردّ لها بأنّهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استِبْعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان ، إذ الشأن أن ينظروا في الذّكر الذي جاءهم من ربّهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به ، وأن يعلموا أن كونَ المُذَكِّر رجلاً منهم أقربُ إلى التّعقّل من كون مُذكِّرِهم من جنس آخر من مَلَك أو جِنِّي ، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل ، وهو يتنزّل منزلة سَنَد المنع في علم الجدل .
ومعنى ( على ) من قوله { على رجل منكم } يشعر بأنّ { جاءكم } ضُمّن معنى نَزل : أي نزل ذكر من ربّكم على رجل منكم ، وهذا مختار ابن عطيّة ، وعن الفرّاء أنّ ( على ) بمعنى مع .
والمجرور في قوله : { لينذركم } ظرف مستقر في موضع الحال من رجل ، أو هو ظرف لَغو متعلّق بقوله : { جاءكم } وهو زيادة في تشويه خَطَئهم إذ جعلوا ذلك ضلالاً مبيناً ، وإنّما هو هدى واضح لفائدتكم بتحذيركم من العقوبة ، وإرشادكم إلى تقوى الله ، وتقريبكم من رحمته .
وقد رُتّبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود ، فإنّ الإنذار مقدّم لأنّه حَمْلٌ على الإقلاع عمّا هم عليه من الشّرك أو الوثنية ، ثمّ يحصل بعده العمل الصّالح فتُرجى منه الرّحمة .
والإنذار تقدّم عند قوله تعالى : { إنَّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونَذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) .
والتّقوى تقدّم عند قوله تعالى : { هدى للمتّقين } في أوّل سورة البقرة ( 2 ) .
ومعنى ( لعلّ ) تقدّم في قوله تعالى : { لعلّكم تتّقون } في سورة البقرة ( 21 ) .
والرّحمة تقدّمت عند قوله تعالى : { الرحمن الرّحيم } في سورة الفاتحة ( 3 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.