قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : اليهود ، وقال مجاهد : النصارى ، وقال قتادة : مشركو العرب .
قوله تعالى : { يكلمنا الله } . عياناً بأنك رسوله وكل ما في القرآن لولا فهو بمعنى هلا ، إلا واحداً ، وهو قوله : ( فلولا أنه كان من المسبحين ) معناه فلو لم يكن .
قوله تعالى : { أو تأتينا آية } . دلالة وعلامة على صدقك .
قوله تعالى : { كذلك قال الذين من قبلهم } . أي كفار الأمم الخالية .
قوله تعالى : { مثل قولهم تشابهت قلوبهم } . أي أشبه بعضها بعضاً في الكفر والقسوة وطلب المحال .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
أي : قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم : هلا يكلمنا ، كما كلم الرسل ، { أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } يعنون آيات الاقتراح ، التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الكاسدة ، التي تجرأوا بها على الخالق ، واستكبروا على رسله كقولهم : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ } الآية ، وقالوا : { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } الآيات وقوله : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } الآيات .
فهذا دأبهم مع رسلهم ، يطلبون آيات التعنت ، لا آيات الاسترشاد ، ولم يكن قصدهم تبين الحق ، فإن الرسل ، قد جاءوا من الآيات ، بما يؤمن بمثله البشر ، ولهذا قال تعالى : { قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فكل موقن ، فقد عرف من آيات الله الباهرة ، وبراهينه الظاهرة ، ما حصل له به اليقين ، واندفع عنه كل شك وريب .
وإذ ينتهي من عرض مقولة أهل الكتاب في ادعاء الولد لله - سبحانه - وتصحيح هذه المقولة وردها ، يتبعها بمقولة للمشركين فيها من سوء التصور ما يتسق مع سوء التصور عن أهل الكتاب :
( وقال الذين لا يعلمون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ! كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) .
والذين لا يعلمون هم الأميون الذين كانوا مشركين ؛ إذ لم يكن لديهم علم من كتاب . وكثيرا ما تحدوا النبي [ ص ] أن يكلمهم الله أو أن تأتيهم خارقة من الخوارق المادية . . وذكر هذه المقولة هنا مقصود لبيان أن الذين من قبلهم - وهم اليهود وغيرهم - طلبوا مثل هذا من أنبيائهم . فلقد طلب قوم موسى أن يروا الله جهرة ، وطلبوا وتعنتوا في طلب الخوارق المعجزة . فبين هؤلاء وهؤلاء شبه في الطبيعة ، وشبه في التصور ، وشبه في الضلال :
فلا فضل لليهود على المشركين . وهم متشابهو القلوب في التصور والعنت والضلال :
( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) . .
والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه ، ويجد فيها طمأنينة ضميره . فالآيات لا تنشىء اليقين ، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها . ويهيء القلوب للتلقي الواصل الصحيح .
{ وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ } فقال بعضهم : عنى بذلك النصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز :
{ وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلّمُنا اللّهُ أوْ تَأتِينا آيَةٌ } قال : النصارى تقولُه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله وزاد فيه { وَقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } : النّصَارَى .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير . وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت رسولاً من عند الله كما تقول ، فقل لله عز وجلّ فليكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أوْ تَأتِينَا آيَةٌ }الآية كلها .
وقال آخرون : بل عنى بذلك مشركي العرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أوْ تَأتِينا آيَةٌ }وهم كفار العرب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ } قال : هم كفار العرب .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ }أما الذين لا يعلمون : فهم العرب .
وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل : إن الله تعالى عنى بقوله : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } : النصارى دون غيرهم لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، وعن افترائهم عليه وادّعائهم له ولدا . فقال جل ثناؤه ، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله : اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا تمنوا على الله الأباطيل ، فقالوا جهلاً منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون : لولا يكلمنا الله كما يكلم رسوله وأنبياءه ، أو تأتينا آية كما أتتهم ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه ، ولا يؤتي آيةً معجزةً على دعوى مدّعٍ إلا لمن كان محقّا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده . فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادّعاء البنين والبنات له ، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه ، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه . وقال الزاعم : إن الله عنى بقوله : وَقَال الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ : العرب ، فإنه قائل قولاً لا خبر بصحته ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب . والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه ، لأنه ادّعى ما لا برهان على صحته ، وادّعاءُ مثل ذلك لن يتعذّر على أحد .
وأما معنى قوله : { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ }فإنه بمعنى : هلاّ يكلمنا الله كما قال الأشهب بن رميلة :
تَعُدّونَ عَقْرَ النّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَي لَوْلاَ الكَميّ المُقَنّعا
بمعنى : فهلاّ تعدّون الكمي المقنع ؟ كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لَوْلا يُكَلّمُنَا اللّهُ }قال : فهلاّ يكلمنا الله .
قال أبو جعفر : فأما الآية فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة . وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا : هلاّ تأتينا آية على ما نريده ونسأل ، كما أتت الأنبياء والرسل فقال عز وجلّ : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } .
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ، فقال بعضهم في ذلك بما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ }هم اليهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }اليهود .
وقال آخرون : هم اليهود والنصارى ، لأن الذين لا يعلمون هم العرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : { قالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }يعني اليهود والنصارى وغيرهم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قالوا يعني العرب ، كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ }يعني اليهود والنصارى .
قال أبو جعفر : قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : { وقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ }هم النصارى ، والذين قالت مثل قولهم هم اليهود ، وسألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة ، وأن يسمعهم كلام ربهم ، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ، وسألوا من الاَيات ما ليس لهم مسألته تحكّما منهم على ربهم ، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الاَيات . فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها ، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله . فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه ، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفِرْيَة عليه ، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام . وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }قلوب النصارى واليهود .
وقال غيره : معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { تَشَابَهت قلوبُهم } يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم .
حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم .
وغير جائز في قوله : تَشَابَهَتْ التثقيل ، لأن التاء التي في أوّلها زائدة أدخلت في قوله : «تفاعل » ، وإن ثقلت صارت تاءين ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد ، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما ، لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال ، والأخرى منها التي في «تفاعل » ، ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل فيقال : تشابه بعد اليوم قلوبنا . فمعنى الآية : وقالت النصارى الجهال بالله وبعظمته : هلاّ يكلمنا الله ربنا كما كلم أنبياءه ورسله ، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد ؟ قال الله جل ثناؤه : فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم . قال مَنْ قبلهم من اليهود ، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة ، ويؤتيهم آية ، واحتكموا عليه وعلى رسله ، وتمنوا الأماني . فاشتهبت قلوب اليهود والنصارى في تمرّدهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله ، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ بَيّنا الاَياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { قَدْ بَيّنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود وجعل منهم القردة والخنازير ، وأعدّ لهم العذاب المهين في معادهم ، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا ، وأعدّ لهم الخزي والعذاب الأليم في الاَخرة ، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها . فاعْلِموا الأسباب التي من أجلها استحقّ كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك ، وخصّ الله بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت في الأمور ، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة . فأخبر الله جل ثناؤه أنه بيّن لمن كانت هذه الصفة صفته ما بيّن من ذلك ليزول شكه ، ويعلم حقيقة الأمر إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه ، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشكّ فيه . وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب ، وذلك منفيّ عن خبر الله عز وجل .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 118 )
قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون } الآية ، قال الربيع والسدي : هم كفار العرب }( {[1184]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وقد طلب عبد الله بن أبي أمية وغيره من النبي صلى الله عليه نحو هذا ، فنفى عنهم العلم لأنهم لا كتاب عندهم ولا اتباع نبوة ، وقال مجاهد : هم النصارى( {[1185]} ) لأنهم المذكورون في الآية أولاً ، ورجحه الطبري ، وقال ابن عباس : المراد من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود ، لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أسمعنا كلام الله ، وقيل : الإشارة بقوله { لا يعلمون } إلى جميع هذه الطوائف ، لأن كلهم قال هذه المقالة أو نحوها ، ويكون { الذين من قبلهم } قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، و { لولا } تحضيض بمعنى هلا( {[1186]} ) ، كما قال الأشهب بن رميلة : [ الطويل ]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أفضلَ مجدِكُمْ . . . بني ضَوْطَرى لولا الكميّ المقنعا( {[1187]} )
وليست هذه { لولا } التي تعطي منع الشيء لوجوب غيره ، وفرق بينهما أنها في التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهراً أو مقدراً ، وعلى بابها في المنع للوجوب( {[1188]} ) يليها الابتداء ، وجرت العادة بحذف الخبر ، والآية هنا العلامة الدالة ، وقد تقدم القول في لفظها( {[1189]} ) ، و { الذين من قبلهم } اليهود والنصارى في قول من جعل { الذين لا يعلمون } كفار العرب ، وهم الأمم السالفة في قول من جعل { الذين لا يعلمون } كفار العرب والنصارى واليهود ، وهم اليهود في قول من جعل { الذين لا يعلمون } النصارى ، والكاف الأولى من { كذلك } نعت لمصدر مقدر ، و { مثل } نعت لمصدر محذوف ، ويصح أن يعمل فيه ، { قال } : وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «تَشَّابهت » بشد الشين ، قال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز لأنه فعل ماض .
وقوله تعالى : { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة ، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين ، فلذلك خصهم بالذكر ، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى ، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا ، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة( {[1190]} ) ، وقوله تعالى { بينا } قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم ، وقرينة أخرى ، وهي أن الكلام مدح لهم ، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم ، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده ، ومثال ذلك تيقن المقلد ثبوت الصانع ، ومنه قول مالك - رحمه الله - في «الموطأ » في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه الشيء في نفسه على غير ذلك . ( {[1191]} )
قال القاضي أبو محمد : وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه .