{ 61 - 64 ْ } { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ }
يقول تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا ْ } أي : الكفار المحاربون ، أي : مالوا { لِلسَّلْمِ ْ } أي : الصلح وترك القتال .
{ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ْ } أي : أجبهم إلى ما طلبوا متوكلا على ربك ، فإن في ذلك فوائد كثيرة .
منها : أن طلب العافية مطلوب كل وقت ، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك ، كان أولى لإجابتهم .
ومنها : أن في ذلك إجماما لقواكم ، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر ، إن احتيج لذلك .
ومنها : أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا ، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر ، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، . فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان ، لحسنه في أوامره ونواهيه ، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم ، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه ، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له ، . فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين .
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ؛ ويجنحون إلى السلم والمسالمة ؛ وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً :
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، وتوكل على الله . إنه هو السميع العليم ) .
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح ، تعبير لطيف ، يلقي ظل الدعة الرقيق . فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم ، ويرخي ريشه في وداعة ! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر . وفي التوكل عليه الكفاية والأمان .
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله [ ص ] وموقفه كذلك منهم ، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم ، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله [ ص ] ولم يقاتله ؛ وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية ، ولا للدولة المسلمة . وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يترك هذا الفريق ، وأن يقبل مهادنته ومسالمته [ وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد ، أو كان له عهد غير موقت ، مدة أربعة أشهر ، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه ] ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات ، ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن ، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله [ ص ] .
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه . فقد عمل رسول الله [ ص ] به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة . .
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية . . ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ؛ فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة ، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ؛ ولم تكن أحكام الجزية موجودة . والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي ، أن يقال : إن هذا الحكم ليس نهائياً ؛ وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة [ التوبة ] والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام : إما محاربين يحاربون . وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله . وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا . . وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي . وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية ، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد :
قال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن يزيد ، عن أبيه ، عنيزيد بن الخطيب الأسلمي - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله [ ص ] إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيراً ، وقال : " اغزوا باسم الله . في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، أو خلال ، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " . .
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين ، مع ذكر الجزية . . والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ؛ وبعد الفتح لم تعد هجرة [ بالقياس إلى الجماعة المسلمة الاولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن ] والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ؛ وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية . فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس ، وهم مثلهم في الشرك ؛ ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم . وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد [ أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك ، وروى غيره عن أبي حنيفة ] :
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه ، أن قول الله تعالى :
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم ) . .
لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب ، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة . إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد ، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين . وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة . فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ؛ ليكون الدين كله لله .
ولقد استطردت - بعض الشيء - في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ؛ فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ؛ ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ؛ وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ؛ كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ؛ ولا حول لهم في الأرض ولا قوة . . وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤلوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ؛ ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته !
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية ، فيجعلون منها نصوصاً نهائية ؛ وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة ، فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ؛ حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوصالمقيدة المرحلية ! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين ، وعن دار الإسلام عندما تهاجم ! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة . والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ! إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع ، أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه ، ولا بالخضوع لمنهج الله ، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ! أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه ، فيتحرك حينئذ للدفاع !
ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر ، أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع - دون ليّ لأعناق النصوص - لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ؛ ولاستطاعوا أن يقولوا : إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو ، ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة ؛ إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة .
وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات :
لقد عقد رسول الله [ ص ] أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة . مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله [ ص ] والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش ، والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة ، أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله [ ص ] وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم ، وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً ، وأن يوادعهم ما وادعوه . . . ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا .
ولما كانت غزوة الخندق ؛ وتجمع المشركون على المدينة ؛ ونقضت بنو قريظة العهد ؛ وخاف رسول الله [ ص ] على المسلمين ؛ عرض على عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة ، وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها . وكانت هذه المقالة من رسول الله [ ص ] لهما مراوضة ولم تكن عقداً . فلما رأى رسول الله [ ص ] منهما أنهما قد رضيا ، استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا : يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ? أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ? او أمر تصنعه لنا ? فقال : " بل أمر أصنعه لكم ، فان العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان ، ولا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة ، إلا شراء أو قرى . فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله [ ص ] وقال : " أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث : " انصرفا ، فليس لكما عندنا إلا السيف " . . فهذا الذي فكر فيه رسول الله [ ص ] إجراء لمواجهة الضرورة . . وليس حكماً نهائياً . .
وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون ، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض ، وأن يرجع عنهم عامه ذلك ، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً ، وألا يدخلها إلا بسلاح الراكبوالسيوف في القرب ، وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه ، ومن أتاه من أصحاب المشركين رده . . . وقد رضي رسول الله [ ص ] بما ألهمه الله - هذه الشروط ، التي تبدو في ظاهرها مجحفة ، لأمر يريده الله ألهم به رسوله . . وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة ؛ تتصرف من خلاله القيادة المسلمة . .
إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة ، وهو منهج متحرك مرن ، ولكنه متين واضح ، والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! وإنما المطلوب هو تقوى الله ، والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي ، والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع ، وهو دين مسيطر حاكم ، يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه .
وعندما أمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يقبل موادعة من وادعوه ، وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه ؛ وجهه إلى التوكل عليه ، وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة :
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرا ، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب . وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فاجْنَحْ لَهَا وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب ، إما بالدخول في الإسلام ، وإما بإعطاء الجزية ، وإما بموادعة ، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح فاجْنَحْ لَهَا يقول : فمل إليها ، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه . يقال منه : جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحا ، وهي لتميم وقيس فيما ذكر عنها ، تقول : يجنُح بضم النون . وآخرون : يقولون : يَجْنِحُ بكسر النون ، وذلك إذا مال ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :
جَوَانِحَ قَدْ أيْقَنّ أنّ قَبِيلَهُ ***إذَا ما الْتَقَى الجَمْعانِ أوّلُ غالِبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ قال : للصلح . ونسخها قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ إلى الصلح فاجْنَحْ لَهَا قال : وكانت هذه قبل براءة ، كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل ، فإما أن يسلموا وإما أن يقاتلوا ، ثم نسخ ذلك بعد في براءة فقال : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقال : قاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً ونبذ إلى كلّ ذي عهد عهده ، وأمره بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويسلموا ، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك ، وكل عهد كان في هذه السورة وفي غيرها ، وكلّ صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به فإن براءة جاءت بنسخ ذلك ، فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا : لا إله إلا الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا نسختها الاَية التي في براءة قوله : قاتِلُوا الّذينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . إلى قوله : وَهُمْ صَاغِرُونَ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا يقول : وإن أرادوا الصلح فأرده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا : أي إن دعوك إلى السلم إلى الإسلام ، فصالحهم عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا قال : فصالحهم . قال : وهذا قد نسخه الجهاد .
فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الاَية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل . وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفي حكم المنسوخ من كل وجه ، فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا . وقول الله في براءة : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حيْثُ وَجَدْتْموهُمْ غير ناف حكمه حكم قوله : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا لأن قوله : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ إنّمَا عُني به بنو قريظة ، وكانوا يهودا أهل كتاب ، وقد أذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم . وأما قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حيْثُ وَجَدْتْموهُمْ فإنما عني به مشركو العرب من عبدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم ، فليس في إحدى الاَيتين نفي حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ قال : قريظة .
وأما قوله : وَتَوَكّلْ على اللّهِ يقول : فوّض إلى الله يا محمد أمرك ، واستكفه واثقا به أنه يكفيك . كالذي :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَتَوَكّلْ على اللّهِ إن الله كافيك .
وقوله : إنّهُ هُوَ السّمِيِعُ العَلِيمُ يعني بذلك : إن الله الذي تتوكل عليه سميع لما تقول أنت ، ومن تسالمه وتتاركه الحرب من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه ، ويشرط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط ، والعليم بما يضمره كلّ فريق منكم للفريق الاَخر من الوفاء بما عاقده عليه ، ومن المضمِر ذلك منكم في قلبه والمنطوي على خلافه لصاحبه .
وقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الآية ، الضمير في { جنحوا } هو للذين نبذ إليهم على سواء ، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة{[5450]} وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه*** بذكراك والعيس المراسيل جنح{[5451]}
وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه{[5452]} على الأرض ومنه قول النابغة : [ الطويل ]
جوانح قد أيقنَّ أن قبيله*** إذا ما التقى الجمعان أول غالب{[5453]}
أي موائل ، وقال لبيد : [ الوافر ]
جنوح الهالكيِّ على يديه*** مكبّاً يجتلي نُقَبَ النصال{[5454]}
وقرأ جمهور الناس «للسَّلم » بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسِّلم » بكسرها وشدها هما لغتان في المسالمة ، ويقال أيضاً «السَّلَم » بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة ، وقرأ جمهور الناس «فاجنَح » بفتح النون وهي لغة تميم ، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُح » وهي لغة قيس بضم النون ، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس ، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله{[5455]} يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس ، وعاد الضمير في { لها } مؤنثاً إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة ، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس ، وقال أبو حاتم يذكر السلم ، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد : هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة{[5456]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بأن يعني بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضاً إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقراً في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم ، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون }{[5457]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه ، لأن الآيتين مبينتان ، وقوله { وتوكل على الله } أمر في ضمنه وعد .