فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

الجنوح : الميل ، يقال جنح الرجل إلى الرجل : مال إليه ومنه قيل للأضالع جوانح ، لأنها مالت إلى الحنوّة ، وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير ، ومنه قول ذي الرمة :

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه *** بذكراك والعيس المراسيل جنح

ومثله قول عنترة :

جوانح قد أيقنّ أن قبيله *** إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب

يعني الطير ، والسلم : الصلح . وقرأ الأعمش وأبو بكر ، وابن محيصن ، والمفضل بكسر السين ، وقرأ الباقون بفتحها . وقرأ العقيلي «فاجنح » بضم النون ، وقرأ الباقون بفتحها . والأولى : لغة قيس ، والثانية : لغة تميم . قال ابن جني : ولغة قيس هي القياس ، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب ، أو هي مؤوّلة بالخصلة ، أو الفعلة .

وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة ؟ فقيل هي منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } وقيل : ليست بمنسوخة ، لأن المراد بها قبول الجزية ، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم ، فتكون خاصة بأهل الكتاب . وقيل : إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه ، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ } وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزّة وقوّة ، لا إذا لم يكونوا كذلك ، فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مهادنة قريش ، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك ، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرّر في مواطنه { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في جنوحك للسلم ، ولا تخف من [ مكرهم ] ، ف { إِنَّه } سبحانه { هُوَ السميع } لما يقولون { العليم } بما يفعلون .

/خ63