اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

قوله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } الآية .

لمَّا بيَّن ما يهرب به العدو من القوة ، بيَّن بعده أنَّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة ، فالحكمُ قبولُ المصالحِة ، والجنوحُ : المَيْلُ ، وجَنَحَتِ الإبلُ : أمالت أعناقها ؛ قال ذو الرُّمَّةِ : [ الطويل ]

إذَا مَاتَ فوقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتِ رُوحَهُ *** بِذكْراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ{[17468]}

يقال : جَنَحَ اللَّيْلُ : أقْبَلَ .

قال النضرُ بن شميلٍ : " جنح الرَّجلُ إلى فلانٍ ، ولفلان : إذا خضع له " والجُنُوح الاتِّباع أيضاً لِتضمُّنه الميل ؛ قال النَّابغة - يصفُ طيراً يتبع الجيش : [ الطويل ]

جَوَانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قبيلهُ *** إذا ما التقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِب{[17469]}

ومنه " الجَوانِحُ " للأضلاع ، لميلها على حشوة الشخص ، والجناح من ذلك ، لميلانه على الطَّائر ، وقد تقدَّم الكلامُ على بعض هذه المادة في البقرة .

قوله " لِلسَّلْمِ " تقدَّم الكلام على " السلم " في البقرة ، وقرأ أبو بكر{[17470]} عن عاصم هنا بكسر السين ، وكَذا في القتال : { وتدعوا إِلَى السلم } ، ووافقه حمزة ما في القتال و " لِلسَّلْم " متعلق ب " جَنَحُوا .

فقيل : يتعدَّى بها ، وب " إلى " .

وقيل : هنا بمعنى " إلى " . وقرأ الأشهبُ{[17471]} العقيليُّ : " فاجْنُحْ " بضمِّ النُّون ، وهي لغة قيس ، والفتح لغة تميم .

والضمير في " لها " يعود على " السلم " ؛ لأنَّها تذكَّرُ وتُؤنث ؛ ومن التَّأنيث قوله [ المتقارب ] .

وأقْنَيْتُ لِلْحربِ آلاتِهَا *** وأعْدَدْتُ للسِّلْمِ أوزارَها{[17472]}

وقال آخر : [ البسيط ]

السِّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا ما رضيتَ بِهِ *** والحَرْبُ يَكْفيكَ منْ أنْفَاسِهَا جُرَعُ{[17473]}

وقيل : أثبت الهاء في " لها " ؛ لأنَّهُ قصد بها الفعلة والجنحة ، كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 153 ] أراد : من بعد فعلتهم .

وقال الزمخشريُّ : " السِّلْمُ تُؤنَّث تأنيث نقيضها ، وهي الحربُ " . وأنشد البيت المتقدم : السِّلم تأخذ منها .

فصل

قال الحسنُ وقتادةُ : هذه الآية نسخت بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] .

وقوله { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] .

وقال غيرهما : ليست منسوخة ؛ لكنها تتضمَّنُ الأمر بالصُّلح إذا كان الصلاح فيه ، فإذا رأى مصالحتهم ، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين ، ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه هادن أهل مكَّة عشر سنين ، ثم إنهم نقضُوا العهد قبل كمال المُدَّة .

وقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي : فوِّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله .

{ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } نبَّه بذلك على الزَّجر عن نقض العهد ؛ لأنَّهُ عالم بما يضمر العبد سميع لما يقوله .

قال مجاهدٌ : " نزلت في قريظة والنضير " وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها{[17474]} .


[17468]:البيت في ديوانه 2/1215 اللسان [جنح] تفسير القرطبي 8/39 البحر المحيط 4/509 الدر المصون 3/433.
[17469]:البيت في ديوانه ص 10 وتفسير الطبري 14/40 القرطبي 8/39 البحر المحيط 4/509 الدر المصون 3/433.
[17470]:وقرأ بها أيضا شعبة. ينظر: السبعة ص (308)، الحجة 4/158، حجة القراءات ص (312) إعراب القراءات 1/230، إتحاف 2/82.
[17471]:ينظر: المحرر الوجيز 2/548، البحر المحيط 4/509، الدر المصون 3/433.
[17472]:البيت من شواهد البحر 4/509 الدر المصون 3/433.
[17473]:البيت للعباس بن مرداس ينظر: ديوانه (86) الخزانة 4/18 إصلاح المنطق 30 والرازي 15/187 حاشية الشيخ يس 2/286.
[17474]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/279) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/359) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.