فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } أي إن مالوا إلى المصالحة فاقبل منهم الصلح ومل إلى المصالحة ، والجنوح الميل ، يقال جنح الرجل إلى الرجل مال إليه ومنه قيل للأضالع الجوانح لأنها مالت إلى الحشوة ، وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير ، ويقال جنح الليل أقبل .

قال النضر بن شميل : جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له ، والجنوح الاتباع أيضا لتضمنه الميل والجناح من ذلك لميلانه إلى الطائر ، والسلم الصلح ، قرئ بالكسر والفتح وهما قراءتان سبعيتان ، وقرئ فاجنح بضم النون وبالفتح والأولى لغة قيس والثانية لغة تميم قال ابن جني : ولغة قيس هي القياس ، والسلم يذكر ويؤنث كما يؤنث الحرب إذ هي مؤولة بالخصلة أو الفعلة .

وعن مجاهد قال : وإن جنحوا يعني قريظة وعن ابن عباس قال : السلم الطاعة .

وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة ، فقيل هي منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } قاله ابن عباس . وقيل ليست بمنسوخة لأن المراد بها قبول الجزية وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم فتكون خاصة بأهل الكتاب ، قاله مجاهد وقيل إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه .

وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى : { ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزة وقوة لا إذا لم يكونوا كذلك ، فإنه جائز كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من مهادنة قريش ، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك ، وهذا كله مبني على أن المراد بالصلح هو عقد الجزية ، أما لو أريد غيره من العقود التي تفيدهم الأمن وهي الهدنة والأمان فلا نسخ مطلقا إذ يصح عقدهما لكل كافر ، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرر في مواطنه .

{ وتوكل على الله } في جنوحك للسلم ولا تخف من مكرهم وفوض أمرك إليه فيما عقدته معهم ليكون ذلك عونا لك في جميع أحوالك { إنه } سبحانه { هو السميع } لما يقولون { العليم } بما يفعلون .