{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا } أي : ردهم خائبين ، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه ، مغتاظين قادرين[ عليه ]{[1]} جازمين ، بأن لهم الدائرة ، قد غرتهم جموعهم ، وأعجبوا بتحزبهم ، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ .
فأرسل اللّه عليهم ، ريحًا عظيمة ، وهي{[2]} ريح الصبا ، فزعزعت مراكزهم ، وقوَّضت خيامهم ، وكفأت قدورهم وأزعجتهم ، وضربهم اللّه بالرعب ، فانصرفوا بغيظهم ، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين .
{ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية ، { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ ، ولا يعجزه أمر أراده ، ولا ينفع أهل القوة والعزة ، قوتهم وعزتهم ، إن لم يعنهم بقوته وعزته .
ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم ؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم ؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية :
( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) . .
وقد بدأت المعركة ، وسارت في طريقها ، وانتهت إلى نهايتها ، وزمامها في يد الله ، يصرفها كيف يشاء . وأثبت النص القراني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره . فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب ، تقريرا لهذه الحقيقة ، وتثبيتا لها في القلوب ؛ وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } .
يقول تعالى ذكره : ورَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا به وبرسوله من قُرَيش وغطفان بِغَيْظِهِمْ يقول : بكربهم وغمهم ، بفوتهم ما أمّلوا من الظفر ، وخيبتهم مما كانوا طَمِعوا فيه من الغَلَبة لَمْ ينَالوا خَيْرا يقول : لم يصيبوا من المسلمين مالاً ولا إسارا وكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ بجنود من الملائكة والريح التي بعثها عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرا الأحزاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرا وذلك يوم أبي سفيان والأحزاب ، ردّ الله أبا سفيان وأصحابه بغيظهم لم ينالوا خيرا وكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ بالجنود من عنده ، والريح التي بعث عليهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرا : أي قريش وغطفان .
حدثني الحسين بن عليّ الصّدائي ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، قال : حُبِسنا يوم الخندق عن الصلاة ، فلم نصلّ الظهر ، ولا العصر ، ولا المغرب ، ولا العشاء ، حتى كان بعد العشاء بهويّ كفينا ، وأنزل الله : وكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ ، وكانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً ، فأقام الصلاة ، وصلى الظهر ، فأحسن صلاتها ، كما كان يصليها في وقتها ، ثم صلى العصر كذلك ، ثم صلى المغرب كذلك ، ثم صلى العشاء كذلك ، جعل لكل صلاة إقامة ، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف فإنْ خِفْتُمْ فِرِجالاً أوْ رُكْبانا .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : حُبسنا يوم الخندق ، فذكر نحوه .
وقوله : وكانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزا يقول : وكان الله قويا على فعل ما يشاء فعله بخلقه ، فينصر من شاء منهم على من شاء أن يخذله ، لا يغلبه غالب عزيزا يقول : هو شديد انتقامه ممن انتقم منه من أعدائه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكانَ اللّهُ قَويّا عَزيزا : قويا في أمره ، عزيزا في نقمته .
عطف على جملة { فأرسلنا عليهم ريحاً } [ الأحزاب : 9 ] وهو الأنسب بسياق الآيات بعدها ، أي أرسل الله عليهم ريحاً وردّهم ، أو حال من ضمير { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } [ الأحزاب : 20 ] ، أي : يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وقد رد الله الأحزاب فذهبوا .
والرد : الإرجاع إلى المكان الذي صُدر منه فإنَّ ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين . وعُبر عن الأحزاب بالذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم العجيبة الشأن .
والباء في { بغيظهم } للملابسة ، وهو ظرف مستقرّ في موضع الحال ، أي : ردهم مُغِيظين .
وإظهار اسم الجلالة دون ضمير المتكلم للتنبيه على عظم شأن هذا الرد العجيب كما تقدم في قوله تعالى : { ليجزي الله الصادقين بصدقهم } [ الأحزاب : 24 ] .
والغيظ : الحَنق والغضب ، وكان غضبهم عظيماً يناسب حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمّع والإنفاق وطولِ المكث حول المدينة بلا طائل وخابت آمالهم في فتح المدينة وأكل ثمارها وإفناء المسلمين ، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة ، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بالريح والانهزام الذي لم يعرفوا سببه .
وجملة { لم ينالوا خيراً } حال ثانية . ولك أن تجعل جملة { لم ينالوا خيراً } استئنافاً بيانياً لبيان موجب غيظهم .
و { كفى } بمعنى أغنى ، أي : أراحهم من كلفة القتال بأن صرف الأحزاب . و { كفى } بهذا المعنى تتعدى إلى مفعولين يقال : كفيتُك مُهمك وليست هي التي تزاد الباء في مفعولها فتلك بمعنى : حسب .
وفي قوله { وكفى الله المؤمنين القتال } حذف مضاف ، أي كلفة القتال ، أو أرزاء القتال ، فإن المؤمنين كانوا يومئذ بحاجة إلى توفير عددهم وعُددهم بعد مصيبة يوم أُحُد ولو التقوا مع جيش المشركين لكانت أرزاؤهم كثيرة ولو انتصروا على المشركين .
والقول في إظهار اسم الجلالة في قوله { وكفى الله المؤمنين القتال } كالقول في { وردّ اللَّه الذين كفروا بغيظهم .
وجملة { وكان الله قوياً عزيزاً } تذييل لجملة { وردّ الله الذين كفروا } إلى آخرها .
والقوة : القدرة ، وقد تقدمت في قوله { لو أنّ لي بكم قوة } في سورة [ هود : 80 ] .
والعزة : العظمة والمنعة ، وتقدمت في قوله تعالى : { أخذته العزّة بالإثم } في سورة [ البقرة : 206 ] .
وذكر فعل { كان } للدلالة على أن العزة والقوة وصفان ثابتان لله تعالى ، ومن تعلُّقات قوتِه وعزته أن صرف ذلك الجيش العظيم خائبين مفتضحين وألقى بينه وبين أحلافه من قريظة الشك ، وأرسل عليهم الريح والقرّ ، وهدَى نُعيماً بن مسعود الغطفاني إلى الإسلام دون أن يشعر قومه فاستطاع النصح للمسلمين بالكَيد للمشركين . ذلك كله معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ورد الله الذين كفروا بغيظهم} أبا سفيان وجموعه من الأحزاب بغيظهم.
{لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا} في ملكه {عزيزا} في حكمه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ورَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا" به وبرسوله من قُرَيش وغطفان "بِغَيْظِهِمْ "يقول: بكربهم وغمهم، بفوتهم ما أمّلوا من الظفر، وخيبتهم مما كانوا طَمِعوا فيه من الغَلَبة، "لَمْ ينَالوا خَيْرا" يقول: لم يصيبوا من المسلمين مالاً ولا إسارا، "وكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ" بجنود من الملائكة والريح التي بعثها عليهم...
وقوله: "وكانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزا" يقول: وكان الله قويا على فعل ما يشاء فعله بخلقه، فينصر من شاء منهم على من شاء أن يخذله، لا يغلبه غالب "عزيزا" يقول: هو شديد انتقامه ممن انتقم منه من أعدائه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وكان الله قويا عزيزا} لأنه قوي بذاته، لا يلحقه ذل. وإن لحق أولياءه الذل والضعف، فليس كملوك الأرض إذا ذهب أصحابهم، أو دخل فيهم ذل وضعف ذل ملكهم لأنه عزيز بجنده وحشمه فأما الله سبحانه فقوي بذاته لا يلحقه ذل ولا ضعف بذهاب أوليائه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يُشمت بالمسلمين عَدُوًّا، ولم يُوصِّلْ إليهم مَنْ كيدهم سوءاً، ووضع كيدهم في نحورهم، واجتثَّهم من أصولهم، وبيِّن بذلك جواهر صِدْقهم وغير صدقهم، وشكَر مَنْ استوجب شكره مِنْ جملتهم، وفضحَ مَنْ استحقّ الذمّ من المدلسِّين منهم.
{وكفى الله المؤمنين القتال} أي لم يحوجهم إلى قتال {وكان الله قويا} غير محتاج إلى قتالهم "عزيزا "قادرا على استئصال الكفار وإذلالهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}... ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده". أخرجاه من حديث أبي هريرة. وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوْفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم، اهزمهم وزلزلهم".
وفي قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}: إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم المسلمون في بلادهم، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق قال: سمعت سليمان بن صُرَد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزونا". وهكذا رواه البخاري في صحيحه، من حديث الثوري وإسرائيل، عن أبي إسحاق، به.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {لم ينالوا خيراً} لا من الدين ولا من الدنيا، بل خذلهم بكل اعتبار.
ولما كان الرد قد يكون بسبب من عدوهم، بين أن الأمر ليس كذلك فقال: {وكفى الله} أي العظيم بقوته وعزته عباده، ودل على أنه ما فعل ذلك إلا لأجل أهل الإخلاص فقال: {المؤمنين القتال}.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية وقد بدأت المعركة، وسارت في طريقها، وانتهت إلى نهايتها، وزمامها في يد الله، يصرفها كيف يشاء. وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره. فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب، تقريرا لهذه الحقيقة، وتثبيتا لها في القلوب؛ وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والرد: الإرجاع إلى المكان الذي صُدر منه؛ فإنَّ ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين، بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين.
وعُبر عن الأحزاب بالذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم العجيبة الشأن.
وإظهار اسم الجلالة دون ضمير المتكلم للتنبيه على عظم شأن هذا الرد العجيب كما تقدم في قوله تعالى: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم} [الأحزاب: 24].
{كفى} بمعنى أغنى، أي: أراحهم من كلفة القتال بأن صرف الأحزاب.
ذكر فعل {كان} للدلالة على أن العزة والقوة وصفان ثابتان لله تعالى، ومن تعلُّقات قوتِه وعزته أن صرف ذلك الجيش العظيم خائبين مفتضحين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«الغيظ» يعني (الغضب) ويأتي أحياناً بمعنى (الغمّ)، وهنا جاء مزيجاً من المعنيين، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للانتصار على جيش الإسلام، لكنّها خابت، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.
(وكان الله قويّاً عزيزاً) فمن الممكن أن يوجد اُناس أقوياء، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يُقهرون، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم، إلاّ أنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو الله عزّ وجلّ الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا انتهاء، فهو الذي أنزل على المؤمنين النصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّاً بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النزال وتقديم التضحيات!