محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا} (25)

{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ } أي مع كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود ، بفضله ورحمته { لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا } أي نصرا ولا غنيمة { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أي لم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة . بل تولى كفاية ذلك وحده . ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده ) . و { كَانَ اللَّه قَوِيًّا } أي فلا يعارض قوته قوة شيء { عَزِيزًا } أي غالبا على أمره .

( ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق )

قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة ، في شوال على أصح القولين . إذ لا خلاف أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث ، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل وهي سنة أربع . ثم أخلفوه لأجل جدب السنة فرجعوا فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه . هذا قول أهل السير والمغازي . وخالفهم موسى بن عقبة وقال : بل كانت سنة أربع . قال أبو محمد بن حزم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه واحتج عليه بحديث ابن عمر في ( الصحيحين ) {[6143]} : ( أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه . ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه ) . قال : وصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة ، وأجيب عن هذا بجوابين : أحدهما – أن ابن عمر أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال ، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقا . وليس في هذا ما ينفي تجاوزهما بسنة أو نحوها . والثاني – أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة . ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة .

ثم قال ابن القيم رحمه الله : وكان سبب غزوة الخندق ، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد ، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين ، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل ، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة ، يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويوالونهم عليه . ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم . فأجابتهم قريش . ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم . ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك . فاستجاب لهم من استجاب . فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف . ووافاهم بنو سليم بمر الظهران . وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة . وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن . وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف . فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه ، استشار الصحابة ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة . فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبادر المسلمون . وعمل بنفسه فيه وبادروا . وهجم الكفار عليهم . وكان في حفره من آيات نبوته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به . وكان حفر الخندق أمام سلع . وسلع جبل خلف ظهور المسلمين . والخندق بينهم وبين الكفار . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين . فتحصن بالجبل من خلفه وبالخندق أمامهم .

وقال ابن إسحاق : خرج في سبعمائة . ( وهذا غلط من خروجه يوم أحد ) .

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة . واستخلف عليها ابن أم مكتوم وانطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة . فدنا من حصنهم . فأبى كعب بن أسد أن يفتح له . فلم يزل يكلمه حتى فتح له . فلما دخل عليه قال : لقد جئتكم بعز الدهر . جئتك بقريش وغطفان وأسد على قادتها ، لحرب محمد . قال : قال كعب : جئتني ، والله ! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه . فهو رعد وبرق . فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . ودخل مع المشركين . في محاربته فسر بذلك المشركون وشرط كعب على حيي أنه ، إن لم يظفروا بمحمد ، أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه ، فيصيبه ما أصابه . فأجابه إلى ذلك ، ووفى له به . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بني قريظة ونقضهم للعهد . فبعث إليهم السعدين وخوات بن جبير وعبد الله بن رواحة ليعرفوه : هل هم على عهدهم أو قد نقضوه . فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون ، وجاهروهم بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانصرفوا عنهم ، ولحنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحنا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا . فعظم ذلك على المسلمين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ( الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين ) . واشتد البلاء وتجهر النفاق . واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا : بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا . وهم بنو سلمة بالفشل . ثم ثبت الله الطائفتين . وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا . ولم يكن بينهم قتال . لأجل ما حال الله به من الخندق . بينهم وبين المسلمين . إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه ، أقبلوا نحو الخندق . فلما وقفوا عليه قالوا : إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها . ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه . وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع . ودعوا إلى البراز . فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فبارزه فقتله الله على يديه . وكان من شجعان المشركين وأبطالهم . وانهزم الباقون إلى أصحابهم . وكان شعار المسلمين يومئذ ( حم لا ينصرون ) ولما طالت هذه الحال على المسلمين ، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف ، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة ، وينصرفا بقومهما . وجرت المراوضة على ذلك . فاستشار السعدين في ذلك فقالا : ( يا رسول الله ! إن كان الله أمرك بهذا ، فسمعا وطاعة . وإن كان شيء تصنعه لنا ، فلا حاجة لنا فيه . لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة ألا قرى أو بيعا . فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ؟ والله ! لا نعطيهم إلا السيف ) . فصوب رأيهما وقال : ( إنما هو شيء أصنعه لكم ، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) .

ثم إن الله عز وجل ، وله الحمد ، صنع أمرا من عنده . خذل به بين العدو وهزم جموعهم ، وفل حدهم . فكان مما هيأ من ذلك ، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر ، رضي الله عنه ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله ! إني قد أسلمت . فمرني بما شئت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل واحد . فخذل عنا ما استطعت : فإن الحرب خدعة ) . فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة ، وكان عشيرا لهم في الجاهلية ، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال : يا بني قريظة ! إنكم قد حاربتم محمدا . وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمدا ، فانتقم منكم . قالوا : فما العمل ؟ يا نعيم ! قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي . ثم مضى على وجهه إلى قريش . قال لهم : تعلمون ودي لكم ونصحي لكم . قالوا : نعم قال : إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم . فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم . ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك . فلما كان ليلة السبت من شوال ، بعثوا إلى يهود : إنا لسنا بأرض مقام ، وقد هلك الكراع والخف . فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا فأرسل إليهم اليهود : إن اليوم يوم السبت وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه . ومع هذا ، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن . فلما جاءتهم رسلهم بذلك ، قالت قريش صدقكم ، والله ! نعيم . فبعثوا إلى يهود : إنا ، والله ! لا نرسل إليكم أحدا . فأخرجوا معنا حتى نناجز محمدا . فقالت قريظة : صدقكم ، والله ! نعيم . فتخاذل الفريقان : وأرسل الله عز وجل على المشركين جندا من الريح في ليال شاتية بارد شديدة البرد . فجعلت تقوض خيامهم ، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها ، ولا طنبا إلا قلعته ، ولا يقر لهم قرار . وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف . وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم ، فوجدهم على هذه الحال وقد تهيأوا للرحيل . فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم برحيل القوم . فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظه ، لم ينالوا خيرا وكفى الله قتالهم . فصدق وعده . وأعز جنده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .

ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا والمسلمون معه ، ووضعوا السلاح ، وكانت الظهر ، أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة – وهم قبيلة من يهود خيبر – فإني عامد إليهم فمزلزل بهم : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في الناس : من كان سامعا مطيعا ، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة ) . واستعمل على المدينة ابن أم مكثوم . وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، رضوان الله عليه ، برايته إلى بني قريظة . وابتدرها الناس . فسار علي ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق . فقال : ( يا رسول الله ! قال : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا ) . وتلاحق به الناس . وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب . ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله ! صلى الله عليك وسلم . إنهم كانوا موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل بني قريظة ، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول فوهبهم له .

فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا ترضون ، يا معشر الأوس ! أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذاك إلى سعد بن معاذ ) .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها رفيدة في مسجده ، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب . فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه على حمار . وكان رجلا جسيما جميلا . ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم فقاموا إليه فأنزلوه ) .

قال ابن كثير : إعظاما وإكراما ، واحتراما له ، في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم .

فلما جلس ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك . فاحكم فيهم بما شئت . وصارت تعرض له الأوس أن يحسن إليهم ، وتقول : يا أبا عمرو ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم ) .

فقال رضي الله عنه : ( عليكم عهد الله وميثاقه ، أن الحكم فيهم لما حكمت . قالوا : نعم . قال : وعلى من ها هنا ( في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ) . وفي رواية : ( لقد حكمت بحكم الملك ) ( أي لأن جزاء الخائن الغادر ) وكان سعد أصيب يوم الخندق . رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة . رماه في الأكحل .

فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله . وقال سعد : ( اللهم ! إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا ، فأبقني لها : فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد ، من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه . اللهم ! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ) . فاستجاب الله تعالى دعاءه وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم ، طلبا من تلقاء أنفسهم .

ثم لما استنزلوا من حصونهم ، حبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق ، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا ، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم . وهم ستمائة أو سبعمائة . وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم ، وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة ، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه :

{ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } .


[6143]:أخرجه البخاري في: 64 – كتاب المغازي، 29 – باب غزوة الخندق، حديث رقم 1295 وأخرجه مسلم في: 33 – كتاب الإمارة، حديث رقم 91 (طبعتنا).