بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا} (25)

قوله عز وجل : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ } يعني : صدهم ، وهم الكفار الَّذين جاؤوا يوم الخندق { بِغَيْظِهِمْ } يعني : صرفهم عن المدينة مع غيظ منهم { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } يعني : لم يصيبوا ما أرادوا من الظفر والغنيمة { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } يعني : دفع الله عنهم مؤنة القتال حيث بعث عليهم ريحاً وجنوداً . { وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق دخل المدينة ، ودخل على فاطمة رضي الله عنها ، وأراد أن يغسل رأسه . فجاءه جبريل عليه السلام : وقال : لا تغسل رأسك ، ولكن اذهب إلى بني قريظة . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إن جبريل عليه السلام قال له حين وضع سلاحه : وضعت سلاحك ؟ قال : « نعم » قال : ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها بعد ، وقد أمرك الله عز وجل أن تنهض نحو بني قريظة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال : «عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لا تُصَلُّوا العَصْرَ إلاّ بِبَنِي قُرَيْظَة » . فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه وخرج المسلمون معه ، واللواء في يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فمر على بني عدي وبني النجار وقد أخذوا السلاح . فقال : «مَنْ أَمَرَكُمْ أنْ تَلْبَسُوا السِّلاحَ » . فقالوا : دحية الكلبي . وكان جبريل عليه السلام يتمثل في صورته .

فلما جاء بني قريظة ، وجد بعض الصحابة قد صلوا العصر قبل أن يأتوا بني قريظة مخافة أن تفوتهم عن وقتها ، وأبى بعضهم فقالوا : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي حتى نأتي بني قريظة . فلم ينتهوا إلى بني قريظة حتى غابت الشمس ، ولم يصلوا العصر . قال : فلم يؤنب أحداً من الفريقين ، أي : رضي بما فعل الفريقان جميعاً . وفيه دليل لقول بعض الناس : إن لكل مجتهد نصيب .

فجاء علي رضي الله عنه باللواء حتى غرزه عند الحصن ، فسبت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ، ورجع إليه علي رضي الله عنه ، فقال : " تأخر يا رسول الله ونحن نكفيك " . قال : «سَبُّونِي وَلَوْ كَانُوا دُونِي لَمْ يَسُبُّونِي » .

فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا إخْوَةَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ انزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله وحُكْمِ رَسُولِهِ » . فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت فحاشاً . ورجع حيي بن أخطب من الروحاء ، ذكر يمينه التي حلف بها لكعب بن الأشرف ، ودخل معهم في حصنهم ، ونزل بنو سعد بن شعبة أسد وأسيد وثعلبة ، فأسلموا . وأبى من بقي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بن عبد المنذر : «اذْهَبْ فَقُلْ لِحُلَفَائِكَ وَمَوَالِيكَ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله تَعَالَى وَرَسُولِهِ » -عَلَيْهِ السَّلامَ- . فجاءهم أبو لبابة . فقال : انزلوا على حكم الله ورسوله . فقالوا : يا أبا لبابة نصرناك يوم بغاث ، ويوم الحدائق والمواطن كلها التي كانت بين الأوس والخزرج ، ونحن مواليك وحلفاؤك ، فانصح لنا ماذا ترى ؟ فأشار إليهم ووضع يده على حلقه يعني : الذبح . فقالوا : لا تفعل ، يعني : لا ننزل . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «خنت الله ورسوله » . فقال : نعم . فانطلق فربط نفسه بخشبة من خشب المسجد حتى تاب الله عليه ، والتمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده . فقالوا : إنه قد ربط نفسه بخشبة من خشبة المسجد . فقال عليه السلام : «لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ فأمَّا إذ رَبَطَ نَفْسَهُ فَدَعُوهُ حَتَّى يَتُوبَ الله عَلَيْهِ » . ثم أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فحلّه ، فقال كعب بن أسد لأصحابه من بني قريظة : أما تعلمون أنه قد جاءنا ابن فلان اليهودي من الشام ؟ فقال لنا : جئتكم لنبي ينتهي إلى هذه الأرض من قريش ، وأنه يبعث بالذبح والقتل والسبي ، فلا يهولنكم ذلك ، وكونوا أولياءه وأنصاره . فقالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا ، نحن أهل الكتاب والنبوة ، لا نتبع قوماً أميين ما درسوا كتاباً قط ، فلا نفعل .

فقال كعب بن أسد : أطيعوني في إحدى ثلاث : قالوا : وما هي ؟ فقال : إنكم لتعرفون أنه رسول الله فاتبعوه ، وانصروه ، فتكونوا أنصاره وأولياءه . فقالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا . فقال : أما إذا أبيتم ، فإن هذه ليلة السبت ، هم يأمنونكم ، انزلوا إليهم فبيتوهم حتى تقتلوهم . فقالوا لا نكسر سبتنا . فقد كسر قوم من بني إسرائيل سبتهم ، فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير . قال : فإن أبيتم هذا . فإذا كان يوم الأحد فاقتلوا أبناءكم ونساءكم ، ثم انزلوا إليهم بأسيافكم فقاتلوهم حتى تموتوا كراماً . فقالوا : لا نفعل . فلبثوا خمسة عشر ليلة محاصرين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عَلَى حُكْمِ مَنْ تَنْزِلُونَ ؟ » قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ ، وكان جريحاً قد رمته بني قريظة ، فأصاب أكحله ، فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة . فأتي به على حمار ، فتبعه قوم كان ميلهم إلى بني قريظة ، وكانوا يقولون له : يا أبا عمرو أحسن في حلفائك ومواليك ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب البقية وقد نصروك يوم بغاث ، ويوم حدائق ، فلم يكلمهم حتى نظر إلى بيوت بني قريظة . فقال سعد : قد آن لي أن لا أخاف في الله لومة لائم . فعرفوا أنه سوف يقتلهم ، فرجعوا عنه . فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي عليه السلام : لمن حوله : «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ » . فقام إليه الأنصار ، فأنزلوه . فقال : «احْكُمْ فِيهِمْ يَا أبا عَمْرٍو » . فقال سعد لليهود : أترضون بحكمي ؟ قالوا : نعم . فقال : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ؟ قالوا : نعم . فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهاب أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : وَعَلَيَّ مِنْ هَاهُنَا مثل ذلك ، وإنه ليغض بصره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «نَعَمْ نَعَمْ وَعَلَيْنَا » . فقال لبني قريظة : انزلوا فلما نزلوا . قال : احكم فيهم يا رسول الله أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبي ذراريهم ، وتقسم أموالهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ مَنْ فَوْقَ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ » . فأتى حيي بن أخطب مأسوراً في حلة ، فجاءه رجل من الأنصار ، فنزع رداءه ، فبقي في إزاره ، فجعل يمزق إزاره لكي لا يلبسه أحد وهو يقول : لا بأس بأمر الله . فلما جاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألَمْ يُمَكِنِّي الله مِنْكَ يَا عَدُوَّ الله » فقال : بلى وما ألوم نفسي فيك قد التمست العز في مظانه ، وقلقلت في كل مقلقل ، فأبى الله إلا أن يمكّنك مني . فأمر بضرب عنقه .

ثم جاؤوا بعزاز بن سموأل فقال : «أَلَمْ يُمْكِنِّي الله مِنْكَ » فقال : بلى يا أبا القاسم ، فضرب عنقه .

ثم قال لسعد : " عَلَيْكَ بِمَنْ بَقِيَ " . وقال : " لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّيْنِ حَرَّ الهَاجِرَةِ ، وَحَرَّ السَّيْف " . فحسبهم في دار الحارث ، وفي بعض الروايات ببيت خراب » .

ثم أخرجهم رسلاً فقتلهم على الولاء والترتيب . فقال بعضهم لبعض في الحبس : ما تراهم يصنعون بنا ؟ فقال واحد : ألا تعقلون أنهم يقتلون ؟ ألا ترون أن الداعي لا يسكت ؟ ومن ذهب لا يرجع ؟ فقتلوا كلهم ولم يسلم أحد منهم . كان فيهم رجل يقال له : زبير بن باطا . فكلم ثابت بن قيس بن شماس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره فقال : إن الزبير بن باطا له عندي يد ، وقد أعانني يوم بغاث فهبهُ لي يا رسول الله حتى أعتقه . فقال عليه السلام : " هُوَ لَكَ " . فجاء إليه . فقال : يا أبا عبد الرحمن أتعرفني ؟ قال : نعم . وهل ينكر الرجل أخاه ، أنت ثابت بن قيس . قال : أتذكر يداً لك عندي يوم بعاث ؟ . قال : نعم . إن الكريم يجزي باليد ، فاجز بها . فقال : قد وهبك النبي صلى الله عليه وسلم لي ، وقد أعتقتك . قال : شيخ كبير لا أهل له كيف يعيش ؟ فجاء ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلّمه في أهله ، فقال : " لَكَ أهْلُهُ " . فجاء إليه . فقال : قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك فهي لك . فقال : شيخ كبير أعمى وامرأة ضعيفة ، وأطفال صغار لا مال لهم كيف يعيشون ؟ فقام ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ماله . فقال : " لَكَ مَالُهُ " . فجاء إليه . فقال : قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك لي فهو لك . فقال : فما فعلت بكعب بن أسد الذي وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي ؟ قال : قتل . قال : فما فعل بعزاز بن سموأل مقدم اليهود إذا حملوا وحاميهم إذا انصرفوا ؟ قال : قتل . قال : فما فعل بسيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل ؟ قال : قتل . قال فما فعل بفلان وفلان ؟ قال : قتل . قال : فقال يا ابن الأخ لا خير في الحياة بعد أولئك ألا أصبر فيه قدر فراغ دلو ماء حتى ألقى الأحبة . قال أبو بكر : ويلك يا ابن باطا ، والله ما هو إفراغ دلو ماء ، ولكنه عذاب الله أبداً . يا ابن الأخ قدمني إلى مصارع قومي ، فاضرب ضربة أجهز بها ، وأرفع يدك عن العظام ، وألصق بالرأس . فإن أحسن الجسد أن يكون فيه شيء من العنق . فقال ثابت : ما كنت لأقتلك . قال : ما أبالي من قتلني . فتقدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه .