يقول تعالى مخبرًا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة ، بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية ، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين ، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد ، ولكن قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ] } {[23299]} [ الأنفال : 33 ] ، فسلط عليهم هواء فرق شملهم ، كما كان سبب اجتماعهم من الهَوَى ، وهم أخلاط من قبائل شتى ، أحزاب وآراء ، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم ، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحَنَقهم ، لم ينالوا خيرًا لا في الدنيا ، مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم ، ولا في الآخرة بما تحملوه{[23300]} من الآثام في مبارزة الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بالعداوة ، وهمهم بقتله ، واستئصال جيشه ، ومَنْ هَمّ بشيء وصَدق هَمَّه بفعله ، فهو في الحقيقة كفاعله .
وقوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أي : لم يحتاجوا{[23301]} إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم ، بل كفى الله وحده ، ونصر عبده ، وأعزَّ جنده ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[23302]} لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعزَّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده " . أخرجاه من حديث أبي هريرة {[23303]} .
وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن أبي أوْفى قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال : " اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب . اللهم ، اهزمهم وزلزلهم " {[23304]} . وفي قوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } : إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش ، وهكذا وقع بعدها ، لم يغزهم المشركون ، بل غزاهم المسلمون في بلادهم .
قال محمد بن إسحاق : لما{[23305]} انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا : " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم " فلم تغز{[23306]} قريش بعد ذلك ، وكان هو يغزوهم بعد ذلك ، حتى فتح الله عليه مكة .
وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق{[23307]} حديث صحيح ، كما قال{[23308]} الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني أبو إسحاق قال : سمعت سليمان بن صُرَد يقول :{[23309]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " الآن نغزوهم ولا يغزونا " .
وهكذا رواه البخاري في صحيحه ، من حديث الثوري وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، به{[23310]} .
وقوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } أي : بحوله وقوته ، ردهم خائبين ، لم ينالوا خيرًا ، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده ، ونصر رسوله وعبده ، فله الحمد والمنة .
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ، ونزلوا على المدينة ، نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد ، وكان ذلك بسفارة حُيَيّ بن أخطب النَّضَري - لعنه الله - دخل حصنهم ، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد ، وقال له فيما قال : ويحك ، قد جئتك بعز الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها ، وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه . فقال له كعب : بل والله أتيتني بذُلِّ الدهر . ويحك يا حيي ، إنك مشؤوم ، فدعنا{[23311]} منك . فلم يزل يفتل في الذِّروة والغَارب حتى أجابه ، واشترط له حُيي{[23312]} إن ذهب الأحزاب ، ولم يكن من أمرهم شيء ، أن يدخل معهم في الحصن ، فيكون له{[23313]} أسوتهم . فلما نَقَضت قريظةُ ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ساءه ، وَشَقَّ عليه وعلى المسلمين جدًّا ، فلما أيد الله ونَصَر ، وكبت الأعداء وردَّهم خائبين بأخسر صفقة ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا ، ووضع الناس السلاح . فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل{[23314]} من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة إذ تبدى له جبريل معتجرا بعمامة من إستبرق ، على بغلة عليها قطيفة [ من ]{[23315]} ديباج ، فقال : أوضَعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : " نعم " . قال : لكن الملائكة لم تضع أسلحتها ، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم . ثم قال : إن الله يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة . وفي رواية فقال له : عذيرَك من مقاتل ، أوضعتم السلاح ؟ قال : " نعم " . قال : لكنا لم نضع أسلحتنا بعد ، انهض إلى هؤلاء . قال : " أين ؟ " . قال : بني قريظة ، فإن الله أمرني أن أزلزل عليهم . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره ، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة ، وكانت على أميال من المدينة ، وذلك بعد صلاة الظهر ، وقال : " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " . فسار الناس ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير ، وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة . فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين . وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب . ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما طال عليهم الحال ، نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيد الأوس - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية ، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك ، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع ، حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك ، ولم يعلموا أن سعدا ، رضي الله عنه ، كان قد أصابه سهم في أكحَله أيام الخندق ، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله ، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب . وقال سعد فيما دعا به : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها . وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة . فاستجاب الله دعاءه ، وقَدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم ، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم ، فلما أقبل وهو راكب [ على حمار ]{[23316]} قد وطَّؤوا له عليه ، جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد ، إنهم مواليك ، فأحسن فيهم . ويرققونه عليهم ويعطفونه ، وهو ساكت لا يرد عليهم . فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فعرفوا أنه غير مستبقيهم ، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا إلى سيدكم " . فقام إليه المسلمون ، فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم . فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك ، فاحكم فيهم بما شئت " . قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قال : " نعم " . قال : وعلى مَنْ في هذه الخيمة ؟ قال : " نعم " . قال : وعلى مَنْ هاهنا . - وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا{[23317]} وإكرامًا وإعظامًا - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " . فقال : إني أحكم أن تقتل مُقَاتلتهم ، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " {[23318]} . وفي رواية : " لقد حكمتَ بحكم المَلك " . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فَخُدّت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم ، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة ، وسبى مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء وأموالهم{[23319]} ، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة ، الذي أفردناه موجزا ومقتصَّا{[23320]} . ولله الحمد والمنة . ولهذا قال تعالى : { وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.