{ 24 - 29 } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ْ }
يقول تعالى -مخبرا عن شدة تكذيب المشركين بآيات الله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ْ } أي : إذا سألوا عن القرآن والوحي الذي هو أكبر نعمة أنعم الله بها على العباد ، فماذا قولكم به ؟ وهل تشكرون هذه النعمة وتعترفون بها أم تكفرون وتعاندون ؟
فيكون جوابهم أقبح جواب وأسمجه ، فيقولون عنه : إنه { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ْ } أي : كذب اختلقه محمد على الله ، وما هو إلا قصص الأولين التي يتناقلها الناس جيلا بعد جيل ، منها الصدق ومنها الكذب ، فقالوا هذه المقالة ، ودعوا أتباعهم إليها ،
( وإذا قيل لهم : ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : أساطير الأولين . ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساء ما يزرون ) .
هؤلاء المستكبرون ذوو القلوب المنكرة التي لا تقتنع ولا تستجيب إذا سئلوا : ( ماذا أنزل ربكم ؟ )لم يجيبوا الجواب الطبيعي المباشر ، فيتلوا شيئا من القرآن أو يلخصوا فحواه ، فيكونوا أمناء في النقل ، ولو لم يعتقدوه إنما هم يعدلون عن الجواب الأمين فيقولون : ( أساطير الأولين ) والأساطير هي الحكايات الوهمية الحافلة بالخرافة . . وهكذا يصفون هذا القرآن الذي يعالج النفوس والعقول ، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس وعلاقات المجتمع وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل . هكذا يصفونه لما يحويه من قصص الأولين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالاَخرة من المشركين : ماذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ أيّ شيء أنزل ربكم ؟ قالوا : الذي أنزل ما سطّره الأوّلون من قبلنا من الأباطيل . وكان ذلك كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ماذَا أنْزَلَ رَبّكُمْ قالُوا أساطِيرُ الأوّلِينَ يقول : أحاديث الأوّلين وباطلهم ، قال ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا مرّ بهم أحد من المؤمنين يريد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا لهم : أساطير الأوّلين ، يريد : أحاديث الأوّلين وباطلهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أساطِيرُ الأوّلِينَ يقول : أحاديث الأوّلين .
و { إذا قيل لهم } عطف على جملة { قلوبهم منكرة } [ سورة النحل : 22 ] ، لأن مضمون هذه من أحوالهم المتقدم بعضُها ، فإنه ذُكر استكبارهم وإنكارهم الوحدانية ، وأتبع بمعاذيرهم الباطلة لإنكار نبوءة محمد وبصدّهم الناس عن اتّباع الإسلام . والتقدير : قلوبهم منكرة ومستكبرة فلا يعترفون بالنبوءة ولا يخلّون بينك وبين من يتطلب الهدى ، مضلّون للناس صادّونهم عن الإسلام .
وذكر فعل القول يقتضي صدوره عن قائل يسألهم عن أمر حدث بينهم وليس على سبيل الفرض ، وأنهم يجيبون بما ذكر مكراً بالدين وتظاهراً بمظهر الناصحين للمسترشدين المستنصحين بقرينة قوله تعالى : { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } [ سورة النحل : 25 ] .
و { إذا } ظرف مضمّن معنى الشّرط . وهذا الشّرط يؤذن بتكرّر هذين القولين . وقد ذكر المفسرون أن قريشاً لما أهمّهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا تأثير القرآن في نفوس الناس ، وأخذ أتباع الإسلام يكثرون ، وصار الواردون إلى مكّة في موسم الحجّ وغيره يسألون الناس عن هذا القرآن ، و ماذا يدعو إليه ، دبّر لهم الوليد بن المغيرة معاذير واختلاقاً يختلقونه ليقنعوا السّائلين به ، فندب منهم ستة عشر رجلاً بعثهم أيام الموسم يقعدون في عقبات مكّة وطرقها التي يرد منها الناس ، يقولون لمن سألهم : لا تغترّوا بهذا الذي يدّعي أنه نبيّ فإنه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كاهن ، وأن الكلام الذي يقوله أساطير من أساطير الأولين اكتتبها . وقد تقدم ذلك في آخر سورة الحِجر . وكان النضر بن الحارث يقول : أنا أقرأ عليكم ما هو أجمل من حديث محمد أحاديثَ رُسْتُمَ وإِسْفَنْدِيَارَ . وقد تقدّم ذكره عند قوله تعالى : { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } في سورة الأنعام ( 93 ) .
ومساءلة العرب عن بعث النبي كثيرة واقعة . وأصرحها ما رواه البخاري عن أبي ذرّ أنه قال : كنت رجلاً من غفار فبلَغَنَا أْن رجلاً قد خرج بمكّة يزعم أنه نبيء ، فقلت لأخِي أُنَيْسٍ : انطلقْ إلى هذا الرجل كلّمْه وائتني بخبره ، فانطَلَق فلقيَه ثم رجع ، فقلتُ : ما عندك ؟ فقال : والله لقد رأيتُ رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشرّ . فقلتُ : لم تشفني من الخبر ، فأخذتُ جراباً وعصاً ثم أقبلت إلى مكّة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه ، وأشربُ من ماء زمزم وأكون في المسجد . . . إلى آخر الحديث .
وسؤال السّائلين لطلب الخبر عن المنزل من الله يدلّ على أن سؤالهم سؤال مسترشد عن دعوى بلغتهم وشاع خبرها في بلاد العرب ، وأنهم سألوا عن حسن طويّة ، ويصُوغون السؤال عن الخبر كما بلغتهم دعوتُه .
وأما الجواب فهو جوابٌ بليغ تضمّن بيان نوع هذا الكلام ، وإبطال أن يكون منزلاً من عند الله لأن أساطير الأولين معروفة والمنزّل من عند الله شأنه أن يكون غير معروف من قبل .
و { ماذا } كلمة مركبة من ( ما ) الاستفهامية واسم الإشارة ، ويقع بعدها فعل هو صلة لموصول محذوف ناب عنه اسم الإشارة . والمعنى : ما هذا الذي أنزل .
و ( ما ) يستفهم بها عن بيان الجنس ونحوه . وموضعها أنها خبر مقدّم . وموضع اسم الإشارة الابتداءُ . والتقدير : هذا الذي أنزل ربكم ما هو . وقد تسامح النحويون فقالوا : إن ( ذا ) من قولهم ( ماذا ) صارت اسم موصول . وتقدم عند قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون } في سورة البقرة ( 215 ) .
{ وأساطير الأولين } خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه ما في السؤال . والتقدير : هو أساطير الأوّلين ، أي المسؤول عنه أساطير الأوّلين .
ويعلم من ذلك أنه ليس منزّلاً من ربهم لأن أساطير الأوّلين لا تكون منزّلة من الله كما قلناه آنفاً . ولذلك لم يقع { أساطير الأولين } منصوباً لأنه لو نصب لاقتضى التقدير : أنزل أساطير الأولين ، وهو كلام متناقض . لأن أساطير الأولين السابقة لا تكون الذي أنزل الله الآن .
والأساطير : جمع أسطار الذي هو جمع سطر . فأساطير جمع الجمع . وقال المبرّد : جمع أسطورة بضم الهمزة كأرجوحة . وهي مؤنثة باعتبار أنها قصة مكتوبة . وهذا الذي ذكره المبرّد أولى لأنها أساطير في الأكثر يعني بها القصص لا كل كتاب مسطور . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأوّلين } في سورة الأنعام ( 25 ) .