قوله تعالى : { وهزي إليك } ، يعني قيل لمريم : حركي { بجذع النخلة } ، تقول العرب : هزه وهز به ، كما يقول : حز رأسه وحز برأسه ، وأمدد الحبل وأمدد به ، { تساقط عليك } ، القراءة المعروفة بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أي : تتساقط ، فأدغمت إحدى التاءين في السين أي : تسقط عليك النخلة رطباً ، وخفف حمزة السين وحذف التاء التي أدغمها غيره . وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف خفيف على وزن تفاعل . وتساقط بمعنى أسقط ، والتأنيث لأجل النخلة . وقرأ يعقوب : يساقط بالياء مشددة ردة إلى الجذع . { رطباً جنياً } ، مجنياً . وقيل : الجني هو الذي بلغ الغاية ، وجاء أوان اجتبائه . قال الربيع بن خثيم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل .
وقوله : وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ ذكر أن الجذع كان جذعا يابسا ، وأمرها أن تهزّه ، وذلك في أيام الشتاء ، وهزّها إياه كان تحريكه ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ قال : حركيها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ قال : كان جذعا يابسا ، فقال لها : هزّيه تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقول : كانت نخلة يابسة .
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول في قوله : وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ : وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته ، فإذا هو نخلة ، وأُجري لها في المحراب نهر ، فتساقطت النخلة رطبا جنيا فَقال لها : كُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْنا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهزّي إليك بالنخلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال مجاهد وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ قال : النخلة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عيسى بن ميمون ، عن مجاهد ، في قوله وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ قال : العجوة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عمرو بن ميمون ، أنه تلا هذه الاَية : وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا قال : فقال عمرو : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب .
وأدخلت الباء في قوله : وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ كما يقال : زوجتك فلانة ، وزوّجتك بفلانة وكما قال تَنْبُتُ بِالدّهْنِ بمعنى : تنبت الدهن . وإنما تفعل العرب بذلك ، لأن الأفعال تكنى عنها بالباء ، فيقال إذا كنيت عن ضربت عمرا : فعلت به ، وكذلك كلّ فعل ، فلذلك تدخل الباء في الأفعال وتخرِج ، فيكون دخولها وخروجها بمعنى ، فمعنى الكلام : وهزّي إليك جذع النخلة وقد كان لو أن المفسرين كانوا فسروه كذلك : وهزّي إليك رطبا بجذع النخلة ، بمعنى : على جذع النخلة ، وجها صحيحا ، ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك . ومن الشاهد على دخول الباء في موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر :
بِوَادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السّدْرَ صَدْرُهُ *** وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشّبَهانِ
واختلف القرّاء في قراءة قوله : تُسَاقِطْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة : «تَسّاقَطُ » بالتاء من تساقط وتشديد السين ، بمعنى : تتساقط عليك النخلة رطبا جنيا ، ثم تُدغم إحدى التاءين في الأخرى فتشدد ، وكأن الذين قرأوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلي : وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط النخلة عليك رطبا . وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة : «تَساقَطُ » بالتاء وتخفيف السين ، ووجه معنى الكلام ، إلى مثل ما وجه إليه مشدّدوها ، غير أنهم خالفوهم في القراءة . ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك : «يُساقِط » بالياء .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك ، وكأنه وجه معنى الكلام إلي : وهزّي إليك بجذع النخلة يتساقط الجذع عليك رطبا جنيا .
ورُوي عن أبي نهيك أنه كان يقرؤه : «تُسْقِطُ » بضمّ التاء وإساقط الألف .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نَهِيك يقرؤه كذلك ، وكأنه وجه معنى الكلام إلي : تسقط النخلة عليك رطبا جنيا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن هذه القراءات الثلاث ، أعني تَسّاقَطُ بالتاء وتشديد السين ، وبالتاء وتخفيف السين ، وبالياء وتشديد السين ، قراءات متقاربات المعاني ، قد قرأ بكل واحدة منهنّ قرّاء أهل معرفة بالقرآن ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الصواب فيه ، وذلك أن الجذع إذا تساقط رطبا ، وهو ثابت غير مقطوع ، فقد تساقطت النخلة رطبا ، وإذا تساقطت النخلة رطبا ، فقد تساقطت النخلة بأجمعها ، جذعها وغير جذعها ، وذلك أن النخلة ما دامت قائمة على أصلها ، فإنما هي جذع وجريد وسعف ، فإذا قطعت صارت جذعا ، فالجذع الذي أمرت مريم بهزّه لم يذكر أحد نعلمه أنه كان جذعا مقطوعا غير السديّ ، وقد زعم أنه عاد بهزّها إياه نخلة ، فقد صار معناه ومعنى من قال : كان المتساقط عليها رطبا نخلة واحدا ، فتبين بذلك صحة ما قلنا .
وقوله : جَنِيّا يعني مجنيا وإنما كان أصله مفعولاً فصرف إلى فعيل والمجني : المأخوذ طريا ، وكل ما أخذ من ثمرة ، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتني ، ولذلك قيل : فلان يجتني الكمأة ومنه قول ابن أخت جذيمة :
هَذَا جَنايَ وخِيارُهُ فِيهْ *** إذْ كُلّ جانٍ يَدُهُ إلى فِيهْ
{ وهزي إليك بجذع النخلة } وأميليه إليك ، والباء مزيدة للتأكيد أو افعلي الهز والإمالة به ، أو { هزي } الثمرة بهزه والهز تحريك بجذب ودفع . { تساقط عليك } تتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين وحذفها حمزة ، وقرأ يعقوب بالياء وحفص " تساقط " من ساقطت بمعنى أسقطت ، وقرئ " تتساقط " و " تسقط " و " يسقط " فالتاء للنخلة والياء للجذع . { رطبا جنيا } تمييز أو مفعول . روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء ، فهزتها فجعل الله تعالى لها رأسا وخوصا ورطبا . وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش ، والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل ، وأنه ليس ببدع من شأنها مع ما فيه من الشراب والطعام ولذلك رتب عليه الأمرين فقال : { فكلي واشربي } .