قوله تعالى : { يرثني ويرث من آل يعقوب } ، قرأ أبو عمرو ، والكسائي : بجزم الثاء فيهما ، على جواب الدعاء ، وقرأ الآخرون بالرفع على الحال والصفة ، أي : ولياً وارثاً . واختلفوا في هذا الإرث ، قال الحسن : معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة . وقيل : أراد ميراث النبوة والعلم . وقيل : أراد إرث الحبورة ، لأن زكريا كان على رأس الأحبار . قال الزجاج : والأولى أن يحمل على ميراث غير المال لأنه يبعد أن يشفق زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يرثه بنو عمه ماله . والمعنى : إنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه على ما كان شاهده من بني إسرائيل من تبديل الدين وقتل الأنبياء ، فسأل ربه ولياً صالحاً يأمنه على أمته ، ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين . وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما . { واجعله رب رضياً } ، أي براً تقياً مرضياً .
ولهذا قال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ْ }
أي : عبدا صالحا ترضاه وتحببه إلى عبادك ، والحاصل أنه سأل الله ولدا ، ذكرا ، صالحا ، يبق بعد موته ، ويكون وليا من بعده ، ويكون نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه ، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد ، ومن رحمة الله بعبده ، أن يرزقه ولدا صالحا ، جامعا لمكارم الأخلاق ومحامد الشيم . فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال : { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا }
ذلك ما يخشاه . فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح ، الذي يحسن الوراثة ، ويحسن القيام على تراثه وتراث النبوة من آبائه وأجداده : ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) .
ولا ينسى زكريا ، النبي الصالح ، أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته : ( واجعله رب رضيا )لا جبارا ولا غليظا ، ولا متبطرا ولا طموعا . ولفظة( رضي )تلقي هذه الظلال . فالرضي الذي يرضى ويرضي . وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله .
ذلك دعاء زكريا لربه في ضراعة وخفية . والألفاظ والمعاني والإيقاع الرخي . كلها تشارك في تصوير مشهد الدعاء .
وقوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول : يرثني من بعد وفاتي مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة ، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول : يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة .
حدثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يكون نبيا كما كانت اباؤه أنبياء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : وكان وارثته علما ، وكان زكريا من ذرّية يعقوب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كان وارثته علما ، وكان زكريا من ذرية يعقوب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : نبوّته وعلمه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللّهُ أخِي زَكَرِيّا ، ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مالِهِ حِينَ يَقُولُ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : كان الحسن يقول : يرث نبوّته وعلمه . قال قتادة : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الاَية ، وأتى على يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : «رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته » .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «يَرْحَمُ اللّهُ زَكَرِيّا وَما كانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَيَرْحَمُ اللّهُ لُوطا إنْ كانَ لَيَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ » .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ فقرأت ذلك عامّة قرّاء المدينة ومكة وجماعة من أهل الكوفة : يَرِثُنِي وَيَرِثُ برفع الحرفين كليهما ، بمعنى : فهب الذي يرثني ويرث من آل يعقوب ، على أن يرثني ويرث من آل يعقوب ، من صلة الوليّ . وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة والبصرة : «يَرِثْنِي ويَرِثْ » بجزم الحرفين على الجزاء والشرط ، بمعنى : فهب لي من لدنك وليا فإنه يرثني إذا وهبته لي . وقال الذين قرأوا ذلك كذلك : إنما حسُن ذلك في هذا الموضع ، لأن يرثني من آية غير التي قبلها . قالوا : وإنما يحسُن أن يكون مثل هذا صلة ، إذا كان غير منقطع عما هو له صلة ، كقوله : رِدْءا يُصَدّقُنِي .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأه برفع الحرفين على الصلة للوليّ ، لأنّ الوليّ نكرة ، وأن زكريا إنما سأل ربه أن يهب له وليا يكون بهذه الصفة ، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أنه سأله وليا ، ثم أخبر أنه إذا وهب له ذلك كانت هذه صفته ، لأن ذلك لو كان كذلك ، كان ذلك من زكريا دخولاً في علم الغيب الذي قد حجبه الله عن خلقه .
وقوله : وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّا يقول : واجعل يا ربّ الوليّ الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت ويرضاه عبادك دينا وخُلُقا وخَلْقا . والرضي : فعيل صرف من مفعول إليه .
{ يرثني ويرث من آل يعقوب } صفتان له وجزمهما أبو عمرو والكسائي على أنهما جواب الدعاء ، والمراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورثون المال . وقيل يرثني الحبورة فإنه كان حبرا ، ويرث من آل يعقوب الملك ، وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام . وقيل يعقوب كان أخا زكريا أو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه السلام . وقرئ " يرثني وارث آل يعقوب " على الحال من أحد الضميرين ، وأو " يرث " بالتصغير لصغره ووارث من آل يعقوب على أنه فاعل يرثني وهذا يسمى التجريد في علم البيان لأنه جرد عن المذكور أولا مع أنه المراد { واجعله رب رضيا } ترضاه قولا وعملا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.