قوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن أهل مكة قالوا : يا محمد ، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه ، وتربح فيه عند الغلاء ، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل إلى ما قد أخصبت ؟ فأنزل الله تعالى { قل لا أملك لنفسي نفعا } أي : لا أقدر لنفسي نفعاً ، أي : اجتلاب نفع ، بأن أربح { ولا ضراً } ، أي دفع ضر بأن أرتحل من أرض يريد أن تجدب إلا ما شاء الله أن أملكه .
قوله تعالى : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } ، أي : لو كنت أعلم الخصب والجدب لاستكثرت من المال ، أي : لسنة القحط ، { وما مسني السوء } أي : الضر والفقر والجوع ، وقال ابن جريج : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } يعني : الهدى والضلالة ، { ولو كنت أعلم الغيب } أي : متى الموت ، { لاستكثرت من الخير } من العمل الصالح ، { وما مسني السوء } قال ابن زيد : واجتنبت ما يكون من الشر واتقيته ، وقيل : معناه ولو كنت أعلم الغيب أي متى الساعة لأخبرتكم حتى تؤمنوا ، { وما مسني السوء } بتكذيبكم ، وقيل : { وما مسني السوء } ابتداءً ، يريد : ما مسني الجنون ، لأنهم كانوا ينسبونه إلى الجنون .
قوله تعالى : { إن أنا إلا نذير } ، لمن لا يصدق بما جئت به .
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا فإني فقير مدبر ، لا يأتيني خير إلا من اللّه ، ولا يدفع عني الشر إلا هو ، وليس لي من العلم إلا ما علمني اللّه تعالى .
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ أي : لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع ، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه ، لعلمي بالأشياء قبل كونها ، وعلمي بما تفضي إليه .
ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما ينالني من السوء ، وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها ، فهذا أدل دليل على أني لا علم لي بالغيب .
إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ أنذر العقوبات الدينية والدنيوية والأخروية ، وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك ، وأحذر منها .
وَبَشِيرٌ بالثواب العاجل والآجل ، ببيان الأعمال الموصلة إليه والترغيب فيها ، ولكن ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة ، وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون ، وهذه الآيات الكريمات ، مبينة جهل من يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر .
فإنه ليس بيده شيء من الأمر ، ولا ينفع من لم ينفعه اللّه ، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه اللّه عنه ، ولا له من العلم إلا ما علمه اللّه تعالى ، وإنما ينفع من قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة ، وعمل بذلك ، فهذا نفعه صلى الله عليه وسلم ، الذي فاق نفع الآباء والأمهات ، والأخلاء والإخوان بما حث العباد على كل خير ، وحذرهم عن كل شر ، وبينه لهم غاية البيان والإيضاح .
والرسول [ ص ] وهو من هو ؛ وقربه من ربه هو قربه ، مأمور أن يعلن للناس أنه أمام غيب الله بشر من البشر ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، لأنه لا يطلع على الغيب ، ولا يعرف الغايات قبل المذاهب ، ولا يرى مآل أفعاله ؛ ومن ثم لا يملك أن يختار عاقبة فعله بحيث إن رأى العاقبة المغيبة خيراً أقدم ، وإن رآها سوءاً أحجم . إنما هو يعمل ، والعاقبة تجيء كما قدر الله في غيبه المكنون :
( قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً - إلا ما شاء الله - ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) . .
وبهذا الإعلان تتم لعقيدة التوحيد الإسلامية كل خصائص التجريد المطلق ، من الشرك في أية صورة من صوره . وتتفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها البشر في شيء منها . ولو كان هذا البشر محمداً رسول الله وحبيبه ومصطفاه - عليه صلوات الله وسلامه - فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية ، ويقف العلم البشري . وعند حدود البشرية يقف شخص رسول الله [ ص ] وتتحدد وظيفته :
( إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . .
والرسول [ ص ] نذير وبشير للناس أجمعين . ولكن الذين( يؤمنون )هم الذين ينتفعون بما معه من النذارة والبشارة ؛ فهم الذين يفقهون حقيقة ما معه ؛ وهم الذين يدركون ما وراء هذا الذي جاء به . ثم هم بعد ذلك خلاصة البشرية كلها ، كما أنهم هم الذين يخلص بهم الرسول من الناس أجمعين . .
إن الكلمة لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لها ، والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها ، وإن هذا القرآن لا يفتح كنوزه ، ولا يكشف أسراره ، ولا يعطي ثماره ، إلا لقوم يؤمنون . ولقد ورد عن بعض صحابة رسول الله [ ص ] : كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن . . وهذا الإيمان هو الذي كان يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق ، ويدركون معانيه وأهدافه ذلك الإدراك ، ويصنعون به تلك الخوارق التي صنعوها في أقصر وقت من الزمان .
لقد كان ذلك الجيل المتفرد يجد من حلاوة القرآن ، ومن نوره ، ومن فرقانه ، ما لا يجده إلا الذين يؤمنون إيمان ذلك الجيل . ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى الإيمان ، لقد كان الإيمان هو الذي فتح لهم في القرآن ما لا يفتحه إلا الإيمان !
لقد عاشوا بهذا القرآن ، وعاشوا له كذلك . . ومن ثم كانوا ذلك الجيل المتفرد الذي لم يتكرر - بهذه الكثرة وبهذا التوافي على ذلك المستوى - في التاريخ كله . . اللهم إلا في صورة أفراد على مدار التاريخ يسيرون على أقدام ذلك الجيل السامق العجيب !
لقد خلصوا لهذا القرآن فترة طويلة من الزمان ، فلم تشب نبعه الرائق شائبة من قول البشر ، اللهم إلا قول رسول الله [ ص ] وهديه . . وقد كان من نبع القرآن ذاته كذلك . . ومن ثم كان ذلك الجيل المتفرد ما كان .
وما أجدر الذين يحاولون أداء ما أداه ذلك الجيل أن ينهجوا نهجه ، فيعيشوا بهذا القرآن ولهذا القرآن فترة طويلة من الزمان ، لا يخالط عقولهم وقلوبهم غيره من كلام البشر ليكونوا كما كان !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.