قوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } قال قتادة : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الساعة } يعني : القيامة ، { أيان مرساها } قال ابن عباس رضي الله عنهما : منتهاها ، وقال قتادة : قيامها ، وأصله الثبات ، أي : متى مثبتها ؟
قوله تعالى : { إنما علمها عند ربي } استأثر بعلمها ولا يعلمها إلا هو .
قوله تعالى : { لا يجليها } لا يكشفها ، ولا يظهرها ، وقال مجاهد : لا يأتي بها .
قوله تعالى : { لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض } . يعني : ثقل علمها ، وخفي أمرها على أهل السموات والأرض . وكل خفي ثقيل ، قال الحسن : يقول إذا جاء ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض .
قوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتةً } ، فجأة على غفلة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ) .
قوله تعالى : { يسألونك كأنك حفي عنها } ، فيه تقديم وتأخير ، أي : عالم بها ، من قولهم : أحفيت في المسألة ، أي : بالغت فيها ، معناها : كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمتها .
قوله تعالى : { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . أن علمها عند الله ، حتى سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم عنها .
187 - 188 يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : يَسْأَلُونَكَ أي : المكذبون لك ، المتعنتون عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا أي : متى وقتها الذي تجيء به ، ومتى تحل بالخلق ؟
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي أي : إنه تعالى مختص بعلمها ، لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ أي : لا يظهرها لوقتها الذي قدر أن تقوم فيه إلا هو .
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي : خفي علمها على أهل السماوات والأرض ، واشتد أمرها أيضا عليهم ، فهم من الساعة مشفقون .
لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً أي : فجأة من حيث لا تشعرون ، لم يستعدوا لها ، ولم يتهيأوا لقيامها .
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا أي : هم حريصون على سؤالك عن الساعة ، كأنك مستحف عن السؤال عنها ، ولم يعلموا أنك - لكمال علمك بربك ، وما ينفع السؤال عنه - غير مبال بالسؤال عنها ، ولا حريص على ذلك ، فلم لا يقتدون بك ، ويكفون عن الاستحفاء عن هذا السؤال الخالي من المصلحة المتعذر علمه ، فإنه لا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب .
وهي من الأمور التي أخفاها الله عن الخلق ، لكمال حكمته وسعة علمه .
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فلذلك حرصوا على ما لا ينبغي الحرص عليه ، وخصوصا مثل حال هؤلاء الذين يتركون السؤال عن الأهم ، ويدعون ما يجب عليهم من العلم ، ثم يذهبون إلى ما لا سبيل لأحد أن يدركه ، ولا هم مطالبون بعلمه .
هؤلاء الغافلون عما حولهم ، العميُ عما يحيط بهم . . يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة البعيدة المغيبة في المجهول . كالذي لا يرى ما تحت قدميه ويريد أن يرى ما في الأفق البعيد !
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفي عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . .
لقد كانت عقيدة الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، تفاجىء المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة . . ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم - عليه السلام - وهو جد هؤلاء المشركين ؛ وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم ؛ إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد ، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل . حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماماً من تصوراتهم ؛ فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم . حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله [ ص ] لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت ؛ وعن البعث والنشور والحساب والجزاء ؛ كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى : وقال الذين كفروا : هل ندلكم على رجل ينبئكم ، إذا مزقتم كل ممزق ، إنكم لفي خلق جديد ؟ أفترى على الله كذباً ؟ أم به جنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد . . [ سبأ : 7 - 8 ] .
ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها - كما هي وظيفة الأمة المسلمة - إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها . . فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا ، وحدود هذه الأرض الصغيرة ، لا يمكن أن ينشىء أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها !
إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور ، وسعة في النفس ، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها ، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة . . كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة ؛ ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة ، عن المضي في التبشير بالخير ، وفعل الخير والقيادة إلى الخير ، على الرغم من النتائج القريبة ، والتضحيات الأليمة . . وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة . .
والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس " الإنسان " ، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك " الحيوان " ! وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية ، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة !
لذلك كله كان التوكيد شديداً على عقيدة الآخرة في دين الله كله . . ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح . . حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلاً . . وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية ، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني !
ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة ، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر :
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ )
إن الساعة غيب ، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه . . ولكن المشركينيسألون الرسول عنها . . إما سؤال المختبر الممتحن ! وإما سؤال المتعجب المستغرب ! وإما سؤال المستهين المستهتر ! ( أيان مرساها ؟ ) أي متى موعدها الذي إليه تستقر وترسو ؟ !
والرسول [ ص ] بشر لا يدعي علم الغيب ، مأمور أن يكل الغيب إلى صاحبه ، وأن يعلمهم أنها من خصائص الألوهية ، وأنه هو بشر لا يدعي شيئاً خارج بشريته ولا يتعدى حدودها ، إنما يعلمه ربه ويوحي إليه ما يشاء :
( قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ) .
فهو - سبحانه - مختص بعلمها ، وهو لا يكشف عنها إلا في حينها ، ولا يكشف غيره عنها .
ثم يلفتهم عن السؤال هكذا عن موعدها ، إلى الاهتمام بطبيعتها وحقيقتها ، وإلى الشعور بهولها وضخامتها . . . ألا وإن أمرها لعظيم ، ألا وإن عبئها لثقيل . ألا وإنها لتثقل في السماوات والأرضين . وهي - بعد ذلك - لا تأتي إلا بغتة والغافلون عنها غافلون :
( ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة ) . .
فأولى أن ينصرف الاهتمام للتهيؤ لها والاستعداد قبل أن تأتي بغتة ؛ فلا ينفع معها الحذر ، ولا تجدي عندها الحيطة ، ما لم يأخذوا حذرهم قبلها ، وما لم يستعدوا لها ، وفي الوقت متسع وفي العمر بقية . وما يدري أحد متى تجيء ، فأولى أن يبادر اللحظة ويسارع ، وألا يضيع بعد ساعة ، قد تفجؤه بعدها الساعة !
ثم يعجب من أمر هؤلاء الذين يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة . . إنهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ ولا يعرفون حقيقة الألوهية ، وأدب الرسول في جانب ربه العظيم .
أي كأنك دائم السؤال عنها ! مكلف أن تكشف عن موعدها ! ورسول الله [ ص ] لا يسأل ربه علم ما يعلم هو أنه مختص بعلمه :
( قل : إنما علمها عند الله ) . .
قد اختص سبحانه به ؛ ولم يطلع عليه أحداً من خلقه .
( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
وليس الأمر أمر الساعة وحده . إنما هو أمر الغيب كله فلله وحده علم هذا الغيب . لا يطلع على شيء منه إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء ، في الوقت الذي يشاء . . لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . . فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم ، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم . وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم ، ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم ! وقد يفعلون الأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير ؛ ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ) . .
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ! % ومن أين والغايات بعد المذاهب
إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول . ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم ، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد ، وأمام ستر الغيب المسدل ، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب .