قوله تعالى : { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } . والملأ من القوم : وجوههم وأشرافهم ، وأصل الملأ الجماعة من الناس ، ولا واحد له من لفظه ، كالقوم والرهط والإبل والخيل والجيش ، وجمعه أملاء .
قوله تعالى : { من بعد موسى } . أي من بعد موت موسى .
قوله تعالى : { إذ قالوا لنبي لهم } . واختلفوا في ذلك النبي ، فقال قتادة : هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام ، وقال السدي : اسمه شمعون وإنما سمي شمعون ، لأن أمة دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب الله دعاءها فولدت غلاماً فسمته شمعون ، تقول سمع الله تعالى دعائي ، والسين تصير شيئاً بالعبرانية ، وهو شمعون بن صفية بن علقمة ، من ولد لاوي بن يعقوب ، وقال سائر المفسرين : هو أشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن يال بن علقمة ، وقال مقاتل : هو من نسل هارون ، وقال مجاهد : هو أشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن هلقايا . وقال وهب وابن إسحاق والكلبي وغيرهم : كان سبب مسألتهم إياه ذلك لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون ، يقيم فيهم التوراة وأمر الله تعالى حتى قبضه الله تعالى ، ثم خلف فيهم كالب ابن يوقنا كذلك حتى قبضه الله تعالى ، ثم خلف حزقيل حتى قبضه الله ، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله حتى عبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم إلياس نبياً فدعاهم إلى الله تعالى ، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ، ثم خلف من بعد إلياس اليسع ، فكان فيهم ما شاء الله ثم قبضه الله ، وخلف فيهم الخلوف ، وعظمت الخطايا فظهر لهم عدو يقال له البلثاثا ، وهم قوم جالوت ، كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم ، وسبوا كثيراً من ذراريهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم ، أربعمائة وأربعين غلاماً ، فضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ، ولم يكن لهم من يدير أمرهم ، وكان سبط النبوة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً ، فسمته أشمويل تقول : سمع الله تعالى دعائي ، فكبر الغلام فأسلمته ليتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه ، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه أحداً فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل ؟ فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ فقال : له يا أبتاه دعوتني ؟ فكره الشيخ أن يقول لا ، فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم ، فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام : يا أبت دعوتني ؟ فقال ارجع فنم ، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك ، فإن الله عز وجل قد بعثك فيهم نبياً ، فلما أتاهم كذبوه وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم تنلك ، وقالوا له : إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ، آية من نبوتك ، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لأنبيائهم ، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه برشده ، ويأتيه بالخبر من ربه ، قال وهب بن منبه : ببعث الله تعالى أشمويل نبياً ، فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل :
قوله تعالى : { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } . جزم على جواب الأمر ، فلما قالوا له ذلك .
قوله تعالى : { قال هل عسيتم } . استفهام شك . يقول : لعلكم ، قرأ نافع : ( عسيتم ) بكسر السين كل القرآن ، وقرأ الباقون بالفتح ، وهي اللغة الفصيحة بدليل قوله تعالى : عسى ربكم .
قوله تعالى : { إن كتب } . فرض .
قوله تعالى : { عليكم القتال } . مع ذلك الملك .
قوله تعالى : { أن لا تقاتلوا } . أن لا تفوا بما تقولون ، ولا تقاتلوا معه .
قوله تعالى : { قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله } . فإن قيل : فما وجه دخول " أن " في هذا الموضع ، والعرب لا تقول " ما لك أن لا تفعل " وإنما يقال : " مالك لا تفعل " قيل : دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان ، فالإثبات كقوله تعالى : ( ما لك أن لا تكون مع الساجدين ) والحذف كقوله تعالى : ( ما لكم لا تؤمنون بالله ) وقال الكسائي : معناه " وما لنا في أن لا نقاتل " فحذف " في " وقال الفراء : أي وما يمنعنا أن لا نقاتل في سبيل الله كقوله تعالى : ( ما منعك أن لا تسجد ) وقال الأخفش : " أن " هاهنا زائدة ، معناه : وما لنا لا نقاتل في سبيل الله .
قوله تعالى : { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } . أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم ، ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص ، لأن الذين قالوا لنبيهم : ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله كانوا في ديارهم ، وأوطانهم وإنما أخرج من أسر منهم ، ومعنى الآية : أنهم قالوا مجيبين لنبيهم : إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا ، فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في الجهاد ونمنع نساءنا وأولادنا .
قوله تعالى : { فلما كتب عليهم القتال تولوا } . أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله .
قوله تعالى : { إلا قليلاً منهم } . وهم الذين عبروا النهر مع طالوت ، واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
يقص تعالى على نبيه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء ، وخص الملأ بالذكر ، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه ، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلام فقالوا له { ابعث لنا ملكا } أي : عيِّن لنا ملكا { نقاتل في سبيل الله } ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا ، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم ، كما جرت عادة القبائل أصحاب البيوت ، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس ، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم ، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم ، كلما مات نبي خلفه نبي آخر ، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة { قال } لهم نبيهم { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } أي : لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به ، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها ، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم ، فقالوا : { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } أي : أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه ، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا ، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا ، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل ، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم { فلما كتب عليهم القتال تولوا } فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة ، وزال ما كانوا عزموا عليه ، واستولى على أكثرهم الخور والجبن { إلا قليلا منهم } فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه ، فحازوا شرف الدنيا والآخرة ، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله ، فلهذا قال : { والله عليم بالظالمين }
القول في تأويل قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ألم تر " ، ألم تر ، يا محمد ، بقلبك ، فتعلم بخبري إياك ، يا محمد " إلى الملأ " ، يعني : إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم= " من بعد موسى " ، يقول : من بعد ما قبض موسى فمات " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل بن بالى بن علقمة بن يرحام بن إليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
5626- حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه .
5627- وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : هو شمويل ، هو شمويل- ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق .
وقال السدي : بل اسمه شمعون . وقال : إنما سمي " شمعون " ، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما ، فاستجاب الله لها دعاءها ، فرزقها ، فولدت غلاما فسمته " شمعون " ، تقول : الله تعالى سمع دعائي .
5628- حدثني [ بذلك ] موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي .
فكأن " شمعون " " فعلون " عند السدي ، من قولها : إنَّه سمع الله دعاءها .
5629- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم " ، قال : شمؤل .
وقال آخرون : بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله ، يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
5630- حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ، قال : كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون ، قال : وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما .
وأما قوله : " ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ، فاختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك .
فقال بعضهم : كان سبب مسألتهم إياه ، ما :
5631- حدثنا به محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه قال : خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون ، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله . ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى . ثم خلف فيهم حزقيل بن بوزي ، وهو ابن العجوز . ثم إن الله قبض حزقيل ، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله . فبعث الله إليهم إلياس بن نسى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا . وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى ، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة . وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب ، وكان يسمع منه ويصدقه . فكان إلياس يقيم له أمره . وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا ، إلا ما كان من ذلك الملك . والملوك متفرقة بالشام ، كل ملك له ناحية منها يأكلها . فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما : يا إلياس ، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا ! والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل - قد عبدوا الأوثان من دون الله ، إلا على مثل ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين ، ما ينقص من دنياهم [ أمرهم الذي تزعم أنه باطل ] ؟ وما نرى لنا عليهم من فضل . ويزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه . ففعل ذلك الملك فعل أصحابه ، عبد الأوثان ، وصنع ما يصنعون . ثم خلف من بعده فيهم اليسع ، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون ، ثم قبضه الله إليه . وخلفت فيهم الخلوف ، وعظمت فيهم الخطايا ، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر ، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون . فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم ، إلا هزم الله ذلك العدو . ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء ، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا ، لا يدخله عليهم عدو ، ولا يحتاجون معه إلى غيره . وكان أحدهم -فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة ، ثم ينبذ فيه الحب ، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله . ويكون لأحدهم الزيتونة ، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته . فلما عظمت أحداثهم ، وتركوا عهد الله إليهم ، نزل بهم عدو فخرجوا إليه ، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه ، ثم زحفوا به ، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم . فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب ، فمالت عنقه ، فمات كمدا عليه . فمرج أمرهم عليهم ، ووطئهم عدوهم ، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم . وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم ، فكانوا لا يقبلون منه شيئا ، يقال له " شمويل " ، وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " إلى قوله : وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ، يقول الله : فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ ، إلى قوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
قال ابن إسحاق : فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم ، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك أنبياءهم . وكان الملك هو يسير بالجموع ، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه . فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم ، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم . فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل ، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا ، وفريقا يقتلون . فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فقال لهم : إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد . فقالوا : إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه ، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد ، فلا يظهر علينا فيها عدو ، فأما إذ بلغ ذلك ، فإنه لا بد من الجهاد ، فنطيع ربنا في جهاد عدونا ، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا .
5632- حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل " إلى : وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، قال الربيع : ذكر لنا -والله أعلم- أن موسى لما حضرته الوفاة ، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل ، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى . ثم إن يوشع بن نون توفي ، واستخلف فيهم آخر ، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم . ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه . ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا . ثم استخلف آخر ، فأنكروا عامة أمره . ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله . ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم ، فقالوا له : سل ربك أن يكتب علينا القتال ! فقال لهم ذلك النبي : هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا ، إلى قوله : وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
5633- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " ، قال قال ابن عباس : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم .
5634- حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " ، قال : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان .
وقال آخرون : كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك ، ما : -
5635- حدثني به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " ، قال : كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة ، وكان ملك العمالقة جالوت ، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم . وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه . وكان سبط النبوة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى ، فأخذوها فحبسوها في بيت ، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام ، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها . فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما ، فولدت غلاما فسمته شمعون . فكبر الغلام ، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه . فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا ، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يتمن عليه أحدا غيره فدعاه بلحن الشيخ : " يا شماول ! " ، فقام الغلام فزعا إلى الشيخ ، فقال : يا أبتاه ، دعوتني ؟ فكره الشيخ أن يقول : " لا " فيفزع الغلام ، فقال : يا بني ارجع فنم ! فرجع فنام . ثم دعاه الثانية ، فأتاه الغلام أيضا فقال : دعوتني ؟ فقال : ارجع فنم ، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني ! فلما كانت الثالثة ، ظهر له جبريل فقال : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا . فلما أتاهم كذبوه وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم تئن لك ! وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، آية من نبوتك ! فقال لهم شمعون : عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا .
قال أبو جعفر : وغير جائز في قول الله تعالى ذكره : " نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " إذا قرئ " بالنون " غير الجزم ، على معنى المجازاة وشرط الأمر . فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون ، بمعنى : الذي نقاتل به في سبيل الله ، فإن ذلك غير جائز . لأن العرب لا تضمر حرفين . ولكن لو كان قرئ ذلك " بالياء " لجاز رفعه ، لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل " الملك " ، فيصير تأويل الكلام حينئذ : ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله ، كما قال تعالى ذكره : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ، لأن قوله ( يَتْلُو ) من صلة الرسول .
القول في تأويل قوله : قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله : " هل عسيتم " ، هل ، تعدون " إن كتب " ، يعني : إن فرض عليكم القتال " ألا تقاتلوا " ، يعني : أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم ، من الجهاد في سبيله ، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون ؟ " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " ، يعني : قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك : وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " ، بالقهر والغلبة ؟ فإن قال لنا قائل : وما وجه دخول " أن " في قوله : " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " ، وحذفه من قوله : وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ؟ [ سورة الحديد : 8 ]
قيل : هما لغتان فصيحتان للعرب : تحذف " أن " مرة مع قولها : " ما لك " ، فتقول : " ما لك لا تفعل كذا " ، بمعنى : ما لك غير فاعله ، كما قال الشاعر :
***ما لك ترغين ولا ترغو الخلف***
وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته ، لفشو ذلك على ألسن العرب .
وتثبت " أن " فيه أخرى ، توجيها لقولها : " ما لك " إلى معناه ، إذ كان معناه : ما منعك ؟ كما قال تعالى ذكره : مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ، ثم قال في سورة أخرى في نظيره : مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، فوضع " مَا مَنَعَكَ " موضع " ما لك " ، و " ما لك " موضع " ما منعك " ، لاتفاق معنييهما ، وإن اختلفت ألفاظهما ، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه ، كما قال الشاعر :
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت *** ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم?
فأدخل في " دائم " الباء " مع " هل " ، وهي استفهام . وإنما تدخل في خبر " ما " التي في معنى الجحد ، لتقارب معنى الاستفهام والجحد . وكان بعض أهل العربية يقول : أدخلت " أن " في : " ألا تقاتلوا " ، لأنه بمعنى قول القائل : ما لك في ألا تقاتل . ولو كان ذلك جائزا ، لجاز أن يقال : " ما لك أن قمت وما لك أنك قائم " ، وذلك غير جائز . لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال ، كما يقال : " منعتك أن تقوم " ، ولا يقال : " منعتك أن قمت " ، فلذلك قيل في " مالك " : " مالك ألا تقوم " ولم يقل : " ما لك أن قمت " . وقال آخرون منهم : " أن " ها هنا زائدة بعد " ما لنا " ، كما تزاد بعد " لما " و " لو " ، وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا . قال : ومعناه : وما لنا لا نقاتل في سبيل الله ؟ فأعمل " أن " وهي زائدة ، وقال الفرزدق :
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها *** إذن للام ذوو أحسابها عمرا
والمعنى : لو لم تكن غطفان لها ذنوب " ولا " زائدة فأعملها .
وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه ، آخرون . وقالوا : غير جائز أن تجعل " أن " زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا : والمعنى : ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن " أن " زائدة ، معنى مفهوم صحيح . قالوا : وأما قوله :
***لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها***
فإن " لا " غير زائدة في هذا الموضع ، لأنه جحد ، والجحد إذا جحد صار إثباتا . قالوا : فقوله : " لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها " ، إثبات الذنوب لها ، كما يقال : " ما أخوك ليس يقوم " ، بمعنى : هو يقوم .
وقال آخرون : معنى قوله : " ما لنا ألا نقاتل " : ما لنا ولأن لا نقاتل ، ثم حذفت " الواو " فتركت ، كما يقال في الكلام : " ما لك ولأن تذهب إلى فلان " ، فألقي منها " الواو " ، لأن " أن " حرف غير متمكن في الأسماء . وقالوا : نجيز أن يقال : " ما لك أن تقوم " ، ولا نجيز : " ما لك القيام " ، لأن القيام اسم صحيح و " أن " اسم غير صحيح . وقالوا : قد تقول العرب : " إياك أن تتكلم " ، بمعنى : إياك وأن تتكلم .
وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا : لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله ، لوجب أن يكون جائزا : " ضربتك بالجارية وأنت كفيل " ، بمعنى : وأنت كفيل بالجارية= وأن تقول : " رأيتك إيانا وتريد " ، بمعنى : " رأيتك وإيانا تريد " . لأن العرب تقول : " إياك بالباطل تنطق " ، قالوا : فلو كانت " الواو " مضمرة في " أن " ، لجاز جميع ما ذكرنا ، ولكن ذلك غير جائز ، لأن ما بعد " الواو " من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها ، واستشهدوا على فساد قول من زعم أن " الواو " مضمرة مع " أن " بقول الشاعر :
فبح بالسرائر في أهلها *** إياك في غيرهم أن تبوحا
وأنَّ " أن تبوحا " ، لو كان فيها " واو " مضمرة ، لم يجز تقديم " في غيرهم " عليها . وأما تأويل قوله تعالى : " وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا " ، فإنه يعني : وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم ، ومن سبي . وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص ، لأن الذين قالوا لنبيهم : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " ، كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم . وأما قوله : " فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ " ، يقول : فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله= " تولوا إلا قليلا منهم " ، يقول : أدبروا مولين عن القتال ، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد . والقليل الذي استثناهم الله منهم ، هم الذين عبروا النهر مع طالوت . وسنذكر سبب تولي من تولى منهم ، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله ، إذا أتينا عليه . يقول الله تعالى ذكره : " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " ، يعني : والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه ، فأخلف الله ما وعده من نفسه ، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه . وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومخالفتهم أمر ربهم . يقول الله تعالى ذكره لهم : إنكم ، يا معشر اليهود ، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء ، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه فيه ، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى . وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه . وذلك أن معنى الكلام : " قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله ، فبعث لهم ملكا ، وكتب عليهم القتال " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " .
جملة : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } استئناف ثان من جملة { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] سيق مساق الاستدلال لجملة { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله ، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال ، حباً للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة ، ومصائب المذلة ، فضرب الله لهذين الحالين مثلين : أحدهما ما تقدم في قوله : { ألم تر إلى الذين أخرجوا من ديارهم } والثاني قوله : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما .
ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم ، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم ، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة ؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة ، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم : { وما لنا ألا نقاتل } إلخ . فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم ، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم ، فلله بلاغة هذا الكلام ، وبراعة هذا الأسلوب تقديماً وتأخيراً . وتقدم القول على { ألم تر } [ البقرة : 243 ] في الآية قبل هذه .
والملأ : الجماعة الذين أمرهم واحد ، وهو اسم جمع كالقوم والرهط ، وكأنه مشتق من الملْء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه ، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم : تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء ؛ فإنهم كانوا يملأون قربهم وأوعيتهم كل مساء عند الورد ، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئاً مهماً ؛ لأن الماء قوام الحياة ، فضربوا ذلك مثلاً للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول علي « اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي » تمثيلاً لإضاعتهم حقه .
وقوله : { من بعد موسى } إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبيء بعد موسى ، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم ، فكانوا يقولون : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم ، والمقصود التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم .
وتنكير نبيء لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه ، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه ، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل : إذ قالوا لنبيهم ، إذ لم يكن هذا النبي معهوداً عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة .
وفي قوله : { لنبيء لهم } تأييد لقول علماء النحو إن أصل الإضافة أن تكون على تقدير لام الجر ، ومعنى { ابعث لنا ملكاً } عين لنا ملكاً ؛ وذلك أنه لما لم يكن فيهم ملك في حالة الحاجة إلى ملك فكأن الملك غائب عنهم ، وكأن حالهم يستدعي حضوره فإذا عين لهم شخص ملكاً فكأنه كان غائباً عنهم فبعث أي أرسل إليهم ، أو هو مستعار من بعث البعير أي إنهاضه للمشي .
وقوله : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال } الآية ، استفهام تقريري وتحذير ، فقوله : { ألا تقاتلوا } مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع ، ودليل على جواب الشرط { إن كتب عليكم القتال } وهذا من أبدع الإيجاز فقد حكى جملاً كثيرة وقعت في كلام بينهم ، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختباراً وسبراً لمقدار عزمهم عليه ، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى « هلْ لاَ تقاتلون » ولم يقل : هل تقاتلون ؛ لأن المستفهم عنه هو الطرَف الراجح عند المستفهم ، وإن كان الطرَف الآخر مقدراً ، وإذا خرج الاستفهام إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة . وتوقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم ، فجملة : { ألا تقاتلوا } يتنازع معناها كل من هَل وَعسى وإنْ ، وأُعطيت لعسى ، فلذلك قرنت بإنْ ، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه . والمقصود من هذا الكلام التحريض لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إلى التقصير ، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل ، كما يقول من يوصي غيره : افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل .
وقرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين على غير قياس ، وقرأه الجمهور بفتح السين وهما لغتان في عسى إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب ، وكأنهم قصدوا من كسر السين التخفيف بإماتة سكون الياء .
وقوله : { قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله } جاءت واو العطف في حكاية قولهم ؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفاً على قولهم : { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } ما يؤدَّى مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم ، في تعيين ملك يدبر أمور القتال ، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال ، فجعلوا كلام نبيئهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه ، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم ، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل :
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [ آل عمران : 122 ] ، { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } [ إبراهيم : 12 ] .
و ( ما ) اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه . واسم الاستفهام في موضع الابتداء ، و { لنا } خبره ، ومعناه ما حصل لنا أو ما استقرَّ لنا ، فاللام في قوله : { لنا } لام الاختصاص و« أن » حرف مصدر واستقبال ، و { نقاتل } منصوب بأن ، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر ، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجروراً بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق ( لا نقاتل ) بالخبر ما لنا في ألا نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لأَلا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا ، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال ، أو سبب لأجل تركهم القتال ، أي لا يكون لهم ذلك . وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلاً من ضمير { لنا } : بَدَل اشتمال ، والتقدير : ما لنا لِتَرْكِنا القتال .
ومثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة : مثل { مالك لا تأمنا على يوسف } [ يوسف : 11 ] { ومالي لا أعبد الذي فطرني } [ يس : 22 ] { ما لكم كيف تحكمون } [ النساء : 88 ] فمالك والتلدد حول نجد { فما لكم في المنافقين فئتين } [ الصافات : 154 ] ، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال ، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد .
و« ما » مبتدأ و« لنا » خبره ، والمعنى : أي شيء كان لنا . وجملة « ألا نُقَاتل » حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري ، أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال . وهذا كنظائره في قولك : مالي لا أفعل أو مالي أفعل ، فإن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر ، متعلق بما تعلقَ به { لنا } .
وجملة { وقد أخرجنا } حال معللة لوجه الإنكار ، أي إنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال ؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء .
وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه ، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه ، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملاً محذوفاً تقديره وأبعدنا عن أبنائنا .
وقوله : { فلما كتب عليهم القتال تولوا } الخ . جملة معترضة ، وهي محل العبرة والموعظة لتحذير المسلمين من حال هؤلاء أن يتولوا عن القتال بعد أن أخرجهم المشركون من ديارهم وأبنائهم ، وبعد أن تمنوا قتال أعدائهم وفرضه الله عليهم والإشارة إلى ما حكاه الله عنهم بعد بقوله : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } [ البقرة : 249 ] إلخ .
وقوله : { والله عليم بالظالمين } تذييل ، لأن فعلهم هذا من الظلم ؛ لأنهم لما طلبوا القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه . ومن أحسن التأديب قول الراجز :
مَن قال لاَ في حاجة *** مسؤولة فما ظلم
وإنما الظالم مــن *** يقول لا بعد نعـم
وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل ، لما فيها من العلم والعبرة ، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليماً للأمة بفوائد ما في التاريخ ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع ، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن . هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية ، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة إلى الصبغة الملكية ، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفي موسى عليه السلام في حدود سنة 1380 قبل الميلاد المسيحي ، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نُون ، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاماً يسوسونهم ويقضون بينهم ، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة ، وكان من أولئك الحكام أنبياء ، وكان هنالك أنبياء غير حكام ، وكان كل سِبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم ، وكان من قضاتهم وأنبيائهم صمويل بن القانة ، من سبط أفرايم ، قاضياً لجميع بني إسرائيل ، وكان محبوباً عندهم ، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالاً بينهم ، ثم كان الانتصار للفلسطينيين ، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل حتى إن تابوت العهد ، الذي سيأتي الكلام عليه ، أسره الفلسطينيون ، وذهبوا به إلى ( أَشدود ) بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر ، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة ، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم ، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين ، لم يكن إلاّ بسبب النظام الملكي ، وكانوا يومئذٍ يتوقعون هجوم ناحاش : ملك العمونيين عليهم أيضاً ، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة ، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكاً يقاتل بهم في سبيل الله ، فاستاء صمويل من ذلك ، وحذرهم عواقب حكم الملوك « إن الملك يأخذ بينكم لخدمته وخدمة خيله ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه ، ويسخر منكم حراثين لحرثه ، وعملة لعُدد حربه ، وأدوات مراكبه ، ويجعل بناتكم عطَّارات وطباخات وخبازات ، ويصطفي من حقولكم ، وكرومكم ، وزياتينكم ، أجودها فيعطيها لعبيده ، ويتخذكم عبيداً ، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم ، فقالوا : لا بد لنا من ملك لنكون مثل سائر الأمم ، وقال لهم : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا { وما لنا ألا نقاتل } الخ . وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح .
وقوله : { وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا } يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل ، وقد صُرح بذلك إجمالاً في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول ، وأنهم أسروا أبناءهم ، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم ، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين من المسلمين على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة ، وفرقوا بينهم وبين نسائهم ، وبينهم وبين أبنائهم ، كما قال تعالى : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } [ النساء : 75 ] .