قوله تعالى : { مِن بَنِي } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه صلةٌ للملأ على مذهب الكوفيين ، لأنهم يَجْعِلون المعرَّفَ بأل موصولاً ويُنْشِدُون :
لَعَمْرِي لأنتَ البيتُ أُكَرِمُ أهلَه *** وأَقْعُدُ في أفنائِهِ بالأصائِلِ
فالبيت موصولٌ ، فعلى هذا لا محلَّ لهذا الجارِّ من الإِعرابِ . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الملأ ، و " مِنْ " للتبعيض ، أي : في حالِ كونِهم بعضَ بني إسرائيل .
والملأ : الأشْرافُ ، سُمُّوا بذلك لأنهم يَمْلَؤُون العيونَ هيبةً ، [ أو المجالسَ إذا حَضَروا ] ، أو لأنهم مَليئون بما يُحْتاج إليهم فيه . وقال الفراء : " الملأُ : [ الرجالُ في كلِّ القرآن ، وكذلك ] القومُ والرهطُ والنفرُ ، ويُجْمع على أَمْلاء ، قال :
وقالَ لها الأملاءُ من كلِّ مَعْشَرٍ *** وخيرُ أقاويل الرجالِ سديدُها
وهو اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظه كالقومِ والرهطِ .
و { مِن بَعْدِ مُوسَى } متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الجارُّ الأولُ وهو الاستقرار ، ولا يَضُرُّ اتحادُ الحرفينِ لفظاً لاختلافِهما معنىً ، فإنَّ الأولى للتبعيض والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ . وقال أبو البقاء : " مِنْ بعدِ " متعلِّقٌ بالجار الأول ، أو بما تعلَّق به الأول " يعني بالأول : " من بني " ، وجعله عاملاً في " مِنْ بعد " لِما تضمَّنه من الاستقرار ، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه ، وهذا على رأي بعضِهم ، يَنْسِبُ العمل للظرفِ والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً ، فتقول في نحو : " زيدٌ في الدار أبوه " أبوه : فاعلٌ بالجارِّ ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ ، وهو الوجهُ الثاني . وقَدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً . تقديرُه : مِنْ بعدِ موتِ موسى ، ليصِحَّ المعنى بذلك .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين ، أحدُهما : أنه العاملُ في " مِنْ بعد " لأنَّه بدلٌ منه ، إذ هما زمانان ، قاله أبو البقاء والثاني : أنه " ألم تر " وكلاهما غيرُ صحيحٍ . أمَّا الأولُ فلوجهين . أحدُهما : من جهة اللفظِ ، والآخرُ : مِنْ جهةِ المعنى . فأمّا الذي من جهةِ اللفظِ فإنه على تقدير إعادة " مِنْ " و " إذ " لا تُجَرُّ ب " مِنْ " . الثاني : أنه ولو كانَتْ " إذ " من الظروف التي تُجَرُّ ب " من " كوقت وحين لم يَصِحَّ ذلك أيضاً ، لأنَّ العاملَ في " مِنْ بعد " محذوفٌ فإنه حالٌ تقديرُه : كائنين من بعد ، ولو قلت : كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يَصِحَّ هذا المعنى . وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى " ألم تر " تقريرٌ للنفي ، والمعنى : ألم ينته علمُك ، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ ، وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولِهم ذلك ، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما ؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يَصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ ، تقديرُه : ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديثِ الملأ أو ما في معناه ؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها ، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها ، فصار المعنى : ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها ، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ ، ولا يَصِحُّ إلا به لِما تَقدَّم .
قوله : { لِنَبِيٍّ } متعلِّقٌ ب " قالوا " ، فاللامُ فيه للتبليغ ، و " لهم " متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي ، ومحلُّه الجرُّ ، و " ابعَثْ " وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ . و " لنا " الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ ، واللامُ للتعليلِ أي : لأجلِنا .
قوله : { نُّقَاتِلْ } الجمهورُ بالنونِ والجزمِ على جوابِ الأمر . وقرىء بالياء والجزمِ على ما تقدَّم ، وابنُ أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللامِ على الصفةِ لملكاً ، فمحلُّها النصبُ . وقُرىء بالنونِ ورفعِ اللام على أنها حالٌ من " لنا " فمحلُّها النصبُ أيضاً أي : ابعَثْه ، لنا مقدِّرين القتال ، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم : ما يَصْنعون بالملكِ ؟ فقالوا نقاتِلْ .
قوله : { هَلْ عَسَيْتُمْ } عسى واسمُها ، وخبرُها { أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابُه محذوفٌ للدلالة عليه ، وهذا كما توسَّط في قوله :
{ وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ " عسى " داخلةً على المبتدأ والخبرِ ، ويقولُ إنَّ " أَنْ " زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين . وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعلٍ متعدٍ فيقولُ : " عَسَيْتم " فعلٌ وفاعلٌ ، و " أَنْ " وما بعدَها مفعولٌ به تقديرُه : هل قَارَبْتُم عدم القتالِ ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ ، والأولُ هو المشهورُ .
وقرأ نافع " عَسِيْتُم " هنا وفي القتال : بكسرِ السينِ ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً/ ومع نا ، ومع نونِ الإناثِ نحو : عَسِينا وعَسِين ، وهي لغةُ الحجاز ، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال : " عسى تُكْسَرُ مع المضمر " وأَطْلَقَ ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ بما ذَكَرْتُ ، إذ لا يقال : الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة .
وقال الفارسي : " ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ : " هو عَسٍ بكذا " مثلَ : حَرٍ وشَجٍ ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو : نَقَم ونَقِم ، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ ، فإنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال : " عَسِيَ زيدٌ " مثل : " رَضِي زيدٌ " . فإن قيل فهو القياسُ ، وإنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين ، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره " فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهرِ بطريق القياسِ على المضمرِ ، وغيرُه من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً ، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً ، وظاهرُ قوله " قولُ العرب : عسىٍ " أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها ، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي ، وقد نَصَّ النحويون على أن " عسى " لا تتصرَّف .
واعلم أنَّ مدلولَ " عسى " إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق ، فعلى هذا : فكيف دَخَلَتْ عليها " هل " التي تقتضي الاستفهامَ ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى ، قال الزمخشري : " والمعنى : هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا ، يعني : هل الأمرُ كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون ، أراد أن يقولَ : عَسَيْتُم ألاَّ تقاتلوا ، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ ، فأدخلَ " هل " مستفهماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ ، وثَبَتَ أنّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه ، كقوله تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ } [ الإنسان : 1 ] معناه التقريرُ " وهذا من أَحسنِ الكلامِ ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ ، مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها ، وبوقوعِها خبراً لإنَّ في قوله :
لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائماً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا لا دليلَ فيه لأنه على إضمار القولِ كقوله :
إنَّ الذين قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدَهمْ *** لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلكِم ناما
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات خلافاً لهشام .
قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه ، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله . و " ما " في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، ومعناها الاستفهامُ ، وهو استفهامُ إنكارٍ . و " لنا في محلِّ رفع خبر ل " ما " .
و " ألاَّ نقاتِلَ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ ، والتقديرُ : وما لَنا في ألاَّ نقاتل ، أي : في تركِ القتالِ ، ثم حُذِفَتْ " في " مع " أَنْ " فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه : أهي في محلِّ جر أم نصبٍ ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو " لنا " ، أو بما يتعلَّق هو به على حَسَبِ ما تقدَّم في { مِن بَعْدِ مُوسَى } . والثاني : مذهبُ الأخفش أنَّ " أَنْ " زائدةٌ ، ولا يَضُرُّ عملُهَا مع زيادتِها ، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجرِ الزائدةِ ، وعلى هذا فالجملةُ المنفيَّة بعدَها في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنه قيل : ما لَنا غيرَ مقاتِلين ، كقولِه : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] وقول العرب : " مالك قائماً " ، وقوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وهذا المذهبُ ضعيفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادة ، فلا يُصارُ إليها دون ضرورةٍ . والثالث : - وهو أضعفُها - مذهبُ الطبري أنَّ ثَمَّ واواً محذوفةً قبلَ قولِه : " أن لا نقاتلَ " . قال : " تقديرُه : وما لنا ولأن لا نقاتلَ ، كقولك : إياك أن تتكلَّمَ ، أي : إياك وأن تتكلم ، فَحُذِفَتْ الواوُ ، وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً .
وأمَّا قولُه : " إنَّ قولَهم إياك أَنْ تتكلم على حذفِ الواوِ " فليس كما زعم ، بل " إياك " ضُمِّنتْ معنى الفعلِ المرادِ به التحذيرُ ، و " أَنْ تتكلمَ " في محلِّ نصبٍ به تقديره : احذَرْ التكلمَ .
قولُه : { وَقَدْ أُخْرِجْنَا } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها : " نقاتلُ " ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحالِ . وهذه قراءةُ الجمهورِ ، أعني بناء الفعلِ للمفعولِ . وقرأ عمرو بن عبيد : " أَخْرَجَنا " على البناء للفاعل . وفيه وَجْهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ اللهِ تعالى ، أي : وقد أَخرَجَنا الله بذنوبنا . والثاني : أنه ضميرُ العدوّ .
" وأبنائنا " عَطْفٌ على " ديارنا " أي : ومن أبنائِنا ، فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه : " من بين أبنائِنا " كذا قدَّره أبو البقاء . وقيل : إنَّ هذا على القلبِ ، والأصلُ : وقد أُخْرِجَ أبناؤنا منا ، ولا حاجةَ إلى هذا .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } نصبٌ على الاستثناء المتصلِ من فاعل " تَوَلَّوا " والمستثنى لا يكونُ مبهماً ، لو قلت : " قام القومُ إلا رجالاً " لم يَصِحَّ ، وإنما صَحَّ هذا لأنَّ " قليلاً " في الحقيقةِ صفةٌ لمحذوفٍ ، ولأنه قد تَخَصَّص بوصفِه بقولِه : " منهم " ، فَقَرُبَ من الاختصاصِ بذلك .
وقرأ أُبَي : " إلاَّ أن يكونَ قليلٌ منهم " وهو استثناءٌ منقطعٌ ، لأنَّ الكونَ معنىً من المعاني والمستثنى منه جُثَتٌ . وهذه المسألةُ/ تحتاجُ إلى إيضاحها لكثرة ِفائدتِها . وذلك أنّ العربَ تقول : " قام القومُ إلا أَنْ يكونَ زيدٌ وزيداً " بالرفع والنصبِ ، فالرفعُ على جَعْلِ " كان " تامةً ، و " زيدٌ " فاعلٌ ، والنصبُ على جَعْلَهَا ناقصةً ، و " زيداً " خبرُها واسمُها ضميرُ عائدٌ على البعض المفهومِ من قوةِ الكلامِ ، والتقديرُ : قام القوم إلا أَنْ يكونَ هو - أي بعضُهم - زيداً ، والمعنى : قام القوم إلا كونَ زيدٍ في القائمين ، وإذا انتفى كونُه قائماً انتفى قيامُهُ . فلا فرقَ من حيث المعنى بين العبارتين ، أعني " قام القوم إلا زيداً " و " قاموا إلا أن يكون زيداً " ، إلا أن الأولَ استثناءٌ متصلٌ ، والثاني منقطعٌ لِما تقدَّم تقريرُه .