الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰٓ إِذۡ قَالُواْ لِنَبِيّٖ لَّهُمُ ٱبۡعَثۡ لَنَا مَلِكٗا نُّقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ قَالَ هَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْۖ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ تَوَلَّوۡاْ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (246)

أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في الآية قال : ذكر لنا - والله أعلم - أن موسى لما حضرته الوفاة استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل ، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى ، ثم إن يوشع بن نون توفي واستخلف فيهم آخر ، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى ، ثم استخلف آخر فسار بهم بسيرة صاحبيه ، ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا ، ثم استخلف آخر فأنكروا عامة أمره ، ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله ، ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم ، فقالوا له : سل ربك أن يكتب علينا القتال . فقال لهم ذلك النبي : { هل عسيتم أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا . . . } الآية . فبعث الله طالوت ملكا ، وكان في بني إسرائيل سبطان سبط نبوة وسبط مملكة ، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ، فلما بعث لهم ملكا أنكروا ذلك وقالوا { أنى يكون له الملك علينا } فقال { إن الله اصطفاه عليكم } الآية .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى . . . } الآية . قال : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم ، فلما كتب عليهم القتال وذلك حين أتاهم التابوت قال : وكان من بني اسرائي سبطان سبط نبوة وسبط خلافة ، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة ، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة { فقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه } وليس من أحد السبطين ، ولا من سبط النبوة ولا من سبط الخلافة { قال إن الله اصطفاه عليكم . . . . } الآية فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم ( إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ) ( البقرة الآية 248 ) وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها ، وجمع ما بقي فجعله في التابوت ، وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت - والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا - فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت ، فلما رأوا ذلك قالوا : نعم ، فسلموا له وملكوه ، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين أيديهم . ويقولون : إن آدم نزل بذلك التابوت ، وبالركن ، وبعصا موسى من الجنة ، وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة .

وأخرج ابن اسحق وابن جرير عن وهب بن منبه قال : خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التوارة وأمر الله حتى قبضه الله ، ثم خلف فيهم كالب بن يوقنا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله ، ثم خلف فيهم حزقيل بن بورى وهو ابن العجوز ، ثم إن الله قبض حزقيل وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ونسوا ما كان من عهد الله إليهم حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله ، فبعث إليهم إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هرون بن عمران نبيا .

وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ، وكان إلياس مع ملك من بني إسرائيل يقال له أجان وكان يسمع منه ويصدقه ، فكان إلياس يقيم له أمره ، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك ، والملوك متفرقة بالشام كل ملك له ناحية منها يأكلها ، فقال ذلك الملك لإلياس : ما أرى ما تدعون إليه إلا باطلا ، أرى فلان وفلانا - يعدد ملوك بني إسرائيل - قد عبدوا الأوثان ، وهم يأكلون ويشربون ويتنعمون ما ينقص من دنياهم ، فاسترجع إلياس وقام شعره ثم رفضه وخرج عنه ، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه وعبد الأوثان .

ثم خلف من بعده فيهم اليسع فكان فيهم ما شاء الله أن يكون ، ثم قبضه الله إليه وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم الخطايا وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر ، فيه السكينة وبقة مما ترك آل موسى وآل هرون ، وكان لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويرجعون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو ، فلما عظمت أحداثهم وتركوا عهد الله إليهم ، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه ، ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استلب من أيديهم ، فمرج أمره عليهم ووطئهم عدوهم حتى أصاب من أبنائهم ونسائهم ، وفيهم نبي لهم يقال له شمويل ، وهو الذي ذكره الله في قوله { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم . . . } الآية . فكلموه وقالوا { ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } .

وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم ، وكان الملك هو يسير بالجموع والنبي يقوم له بأمره ويأتيه بالخبر من ربه ، فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم ، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم ، فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل ، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا وفريقا يقتلون ، فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا { ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } فقال لهم : إنه ليس عندكم وفاء ، ولا صدق ، ولا رغبة في الجهاد . فقالوا : إنا كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه ، إنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد فلا يظهر علينا عدو ، فأما إذا بلغ ذلك فإنه لا بد من الجهاد ، فنطيع ربنا في جهاد عدونا ونمنع أبنائنا ونساءنا وذرارينا .

فلما قالوا له ذلك سأل الله شمويل أن يبعث لهم ملكا . فقال الله له : انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك ، فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن - فهو ملك بني إسرائيل - فادهن رأسه منه وملكه عليهم ، فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه ، وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم ، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب ، وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيهم نبوة ولا ملك ، فخرج طالوت في ابتغاء دابة له أضلته ومعه غلام ، فمرا ببيت النبي عليه السلام فقال غلام طالوت لطالوت : لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير . فقال طالوت : ما بما قلت من بأس فدخلا عليه ، فبينما هما عنده يذكران له من شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها إذ نش الدهن الذي في القرن ، فقالم إليه النبي عليه السلام فأخذه ، ثم قال لطالوت : قرب رأسك فقربه ، فدهنه منه ثم قال : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم ، وكان اسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أشال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن أنس بن يامين بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ، فجلس عنده وقال : الناس ملك طالوت . فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم فقالوا له : ما شأن طالوت تملك علينا وليس من بيت النبوة ولا المملكة ، قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا ؟ ! فقال لهم { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم } .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن وهب بن منبه قال : قالت بنو إسرائيل لشمويل : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال : قد كفاكم الله القتال . قالوا : إنا نتخوف من حولنا فيكون لنا ملك نفزع إليه ، فأوحى الله إلى شمويل : أن ابعث لهم طالوت ملكا ، وادهنه بدهن القدس . وضلت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاما له يطلبانها ، فجاؤوا إلى شمويل يسألونه عنها فقال : إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل . قال : أنا ؟ ! قال : نعم . قال : وما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ؟ قال : بلى . قال : فبأي آية ؟ قال : بآية أن ترجع وقد وجد أبوك حمره ، فدهنه بدهن القدس فقال لبني إسرائيل { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك . . . } الآية .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله { إذ قالوا لنبي لهم } قال : شمؤل .

وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في الآية قال : هو يوشع بن نون .

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مرة عن أبي عبيدة { إذ قالوا لنبي لهم } قال : الشمول ابن حنة بن العاقر .

246