معاني القرآن للفراء - الفراء  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰٓ إِذۡ قَالُواْ لِنَبِيّٖ لَّهُمُ ٱبۡعَثۡ لَنَا مَلِكٗا نُّقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ قَالَ هَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْۖ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ تَوَلَّوۡاْ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (246)

وقوله : { ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . . . }

( نُقَاتِلْ ) مجزومة لا يجوز رفعها . فإن قرئت بالياء " يُقاتل " جاز رفعها وجزمها . فأما الجزم فعلى المجازاة بالأمر ، وأما الرفع فإن تجعل ( يُقاتل ) صلة للملك ؛ كأنك قلت : ابعث لنا الذي يقاتل .

فإذا رأيت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يَرجع بذكره أو يصلح في ذلك الفعل إضمار الاسم ، جاز فيه الرفع والجزم ؛ تقول في الكلام : علِّمني عِلْما أنتفعُ به ، كأنك قلت : علمني الذي أنتفع به ، وإن جزمت ( أنتفع ) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك . فإن ألقيت " به " لم يكن إلا جزما ؛ لأن الضمير لا يجوز في ( انتفع ) ؛ ألا ترى أنك لا تقول : علِّمني علما انتفعه .

فإن قلت : فهلاَّ رفعت وأنت تريد إضمار ( به ) ؟

قلت : لا يجوز إضمار حرفين ، فلذلك لم يجز في قوله ( نقاتل ) إلا الجزم . ومثله { اقتُلُوا يُوسُفَ أو اطْرَحُوهُ أرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْه أبيكم } لا يجوز إلا الجزم لأن " يَخْلُ " لم يَعُدْ بذِكْر الأرض . ولو كان " أرضا تخل لكم " جاز الرفع والجزم ؛ كما قال : { رَبَّنا وابْعَثْ فِيهم رَسُولا مِنهم يَتْلُو عليهم آياتِك ويعلِّمُهُمُ الكتَابَ والحِكمة ويزكِّيهم } وكما قال الله تبارك وتعالى : { خُذْ مِن أَمْوَالِهِم صدقة تُطَهِّرهم وتُزَكِّيهِم } ولو كان جزما كان صوابا ؛ لأن في قراءة عبد الله " أنزِل علينا مائدة من السماء تَكُنْ لنا عِيدا " وفي قراءتنا بالواو " تكون " .

ومنه ما يكون الجزم فيه أحسن ؛ وذلك بأن يكون الفعل الذي قد يُجزم ويرفع في آية ، والاسم الذي يكون الفعل صلة له في الآية التي قبله ، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته ؛ من ذلك : { فهَبْ لِي مِن لدنك ولِيّاً . يرِثني } جزمه يحيى ابن وَثّاب والأعمش - ورفعه حمزة " يرِثُني " لهذه العلّة ، وبعض القراء رفعه أيضا - لما كانت ( وليا ) رأسَ آية انقطع منها قوله ( يرثني ) ، فحسن الجزم . ومن ذلك قوله : { وابْعَثْ في المدائن حاشِرين . يَأتُوك } على الجزم . ولو كانت رفعا على صلة " الحاشرين " قلت : يأتوك .

فإذا كان الاسم الذي بعده فِعْل معرفةً يَرجع بذكره ، مما جاز في نكرته وجهان جزمت فقلت : ابعث إلىّ أخاك يُصِب خبرا ، لم يكن إلا جزما ؛ لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل . ومنه قوله : { أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } الهاء معرفة و " غدا " معرفة فليس فيه إلا الجزم ، ومثل قوله : { قاتِلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله } جَزْم لا غير .

ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعلٌ لها جاز فيه الرفع والجزم ؛ مثل قوله : { فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ الله } وقوله : { ذَرْهُمْ يأْكُلُوا } ولو كان رفعا لكان صوابا ؛ كما قال تبارك وتعالى : { ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِم يَلْعَبُون } ولم يقل : يلعبوا . فأما رفعه فأن تجعل " يلعبون " في موضع نصب كأنك قلت في الكلام : ذرهم لاعبين . وكذلك دَعْهم وخلِّهم واتركهم . وكلّ فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان ، والجزم فيه وجه الكلام ؛ لأن الشرط يحسن فيه ، ولأن الأمر فيه سهل ، ألا ترى أنك تقول : قل له فليقم معك . فإن رأيت الفعل الثاني يحسن فيه مِحنْة الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد ، وفي إحدى القراءتين : " ذَرْهُمْ يَأْكُلُونَ ويَتَمَتَّعون ويلهِيهم الأَمل " .

وفيه وجه آخر يُحسن في الفعل الأوّل . من ذلك : أوصِهِ يأتِ زيدا ، أو مُرْه ، أو أرسل إليه . فهذا يذهب إلى مذهب القول ، ويكون جزمه على شبيه بأمر يُنْوَى له مجدَّدا . وإنما يجزم على أنه شرط لأوّله . من ذلك قولك : مُرْ عبد الله يذهبْ معنا ؛ ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع في موضع ( مُرْ ) ، وقال الله تبارك وتعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلذين لاَ يَرْجُونَ أيَّامَ الله } ف " يَغْفِرُوا " في موضع جزم ، والتأويل - والله أعلم - : قل للذين آمنوا اغفروا ، على أنه شرط للأمر فيه تأويل الحكاية . ومثله : { قل لِعبادِي يَقُولُوا التي هي أَحْسَن } فتجزمه بالشرط " قل " ، وقال قوم : بنيَّه الأمر في هذه الحروف : من القول والأمرِ والوصيَّة . قيل لهم : إن كان جزم على الحكاية فينبغي لكم أن تقولوا للرجل في وجهه : قلت لك تَقُمْ ، وينبغي أن تقول : أمرتك تذْهبْ معنا ، فهذا دليل على أنه شرط للأمر .

فإن قلت : فقد قال الشاعر :

فلا تستطِلْ منّى بقائي ومُدّتِي *** ولكن يكن للخير فيك نصيب

قلتُ : هذا مجزوم بنيَّة الأمر ؛ لأن أوّل الكلام نهي ، وقوله ( ولكن ) نَسَق وليست بجواب . فأراد : ولكن ليكن للخير فيك نصيب . ومثله قول الآخر :

من كان لا يزعم أنى شاعرُ *** فَيَدْنُ منى تنهَه المزاجِر

فجعل الفاء جوابا للجزاء ، وضَّمن ( فيدن ) لاما يجزِم [ بها ] . وقال الآخر :

فقلت ادْعِى وأَدْعُ فإنَّ أَنْدَى *** لصوتٍ أن ينادِىَ داعيان

أراد : ولأَدْعُ . وفي قوله ( وأَدْع ) طَرَف من الجزاء وإن كان أمرا قد نُسِق أوّله على آخِره . وهو مِثل قول الله عزّ وجلّ : { اتَّبِعوا سبِيلنا ولْنحمِل خطاياكم } والله أعلم . وأما قوله : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّه } فليس تأويل جزاء ، إنما هو أمر محض ؛ لأن إلقاء الواو وردَّه إلى الجزاء ( لا يحسن فليس إلى الجزاء ) ؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذروني أقتله يدع ؛ كما حسن " اتَّبِعوا سبِيلنا تَحْمل خطاياكم "

والعرب لا تجازِى بالنهي كما تجازِى بالأمر . وذلك أن النهي يأتي بالجحد ، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود . وإنما يجيبونه بالفاء . وألحقوا النهي إذا كان بلا ، بليس وما وأخواتِهن من الجحود . فإذا رأيت نهيا بعد اسمه فِعْل فارفع ذلك الفعل . فتقول : لا تدعَنّه يضربُه ، ولا تتركْه يضربُك . جعلوه رفعا إذ لم يكن آخِره يشاكل أوّله ؛ إذ كان في أوّله جَحد وليس في آخره جحد . فلو قلت : لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع ؛ إذ كان أوّله كآخره ؛ كما تقول في الأمر : دَعْه ينامُ ، ودعه ينم ؛ إذ كان لا جحد فيهما . فإذا أمرت ثم جعلت في الفعل ( لا ) رفعت ؛ لاختلافهما أيضا ، فقلت : اِيتنا لا نسيء إليك ؛ كقول الله تبارك وتعالى : { وأْمُرْ أَهْلَكَ بالصَّلاَةِ واصْطَبِرْ عليها لا نسألك رِزقا } [ لما كان ] أوّل الكلام أمرا وآخره نهيا فيه ( لا ) فاختلفا ، جعلت ( لا ) على معنى ليس فرفعت . ومن ذلك قوله تبارك وتعالى : { فَقَاتِلْ في سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إلاّ نَفْسَكَ } وقوله : { يَأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُم أَنْفُسَكم لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتديتم } رَفْع ، ومنه قوله : { فاجعل بيننا وبينك مَوْعِداً لا نُخلِفُهُ } ترفع ، ولو نويت الجزاء لجاز في قياس النحو . وقد قرأ يحيى بن وثَّاب وحمزة : " فاضْرِبْ لهم طرِيقا في البحر يَبَساً لا تخف دركا ولا تخشى " بالجزاء المحض .

فإن قلت : فكيف أثبتت الياء في ( تخشى ) ؟ قلت : في ذلك ثلاثة أوجه ؛ إن شئت استأنفت " ولا تخشى " بعد الجزم ، وإن شئت جعلت ( تخشى ) في موضع جزم وإن كانت فيها الياء ؛ لأن من العرب من يفعل ذلك ؛ قال بعض بنى عَبْس :

ألم يأتيك والأنباء تَنْمِى *** بما لاقت لَبُونُ بنى زياد

فأُثبتت الياء في ( يأتيك ) وهي في موضع جزم ؛ لأنه رآها ساكنة ، فتركها على سكونا ؛ كما تفعل بسائر الحروف . وأنشدنى بعض بنى حَنِيفَة :

قال لها مِن تحتها وما استوى *** هُزِّى إليِك الجِذْع يَجنِيك الجَنَى

وكان ينبغى أن تقول : يجنكِ . وأنشدنى بعضهم في الواو :

هجوتَ زَبّان ثم جئت معتذِرا *** من سبّ زَبَّان لم تهجو ولم تدع

والوجه الثالث أن يكون الياء صلة لفتحة الشين ؛ كما قال امرؤ القيس :

*** ألا أيُّها الليلُ الطويل ألا انجلى ***

فهذه الياء ليست بلام الفعل ؛ هي صلة لكسرة اللام ؛ كما توصل القوافي بإعراب رَوِيّها ؛ مثل قول الأعشى :

*** بانت سُعَادُ وأمسى حبلُها انقطاعا ***

وقولِ الآخر :

*** أمِن أُمِّ أوفي دِمْنةٌ لم تكلمي ***

وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فيه ( لا ) على نيّة النهي وفيه معنىً مِن الجزاء ؛ كما كان في قوله { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } طرف من الجزاء وهو أمر . فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى : { يأيُّها النَّمل ادْخُلُوا مَساكِنَكُم لا يَحْطِمَنَّكُم سُلَيْمانُ وجُنُوده } المعنى والله أعلم : إن ؟ تدخلن حُطّمتُنَّ ، وهو نهي محض ؛ لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة ؛ ألا ترى أنك لا تقول : إن تضربني أضربنَّك إلا في ضرورة شعر ؛ كقوله :

فمهما تشأ منه فَزَارةُ تُعْطِكُم *** ومهما تَشَأ منه فَزَارةُ تمنعَا

وقوله : { وَما لَنا أَلاَّ نُقَاتِلَ . . . }

جاءت ( أَن ) في موضع ، وأُسقطت من آخر ؛ فقال في موضع آخر : { وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنونَ بالله والرَّسُولُ يَدْعُوكم } وقال في موضع آخر : { وما لنا ألاَّ نتوكّل على الله } فمن ألقى ( أن ) فالكلمة على جهة العربيّة التي لا عِلة فيها ، والفعل في موضع نصب ؛ كقول الله - عزَّ وجل - : { فما لِلَّذينَ كفروا قِبَلَكَ مُهْطعين } وكقوله : { فما لَكُمْ في المنافِقِين فِئَتَيْنِ } فهذا وجه الكلام في قولك : مالك ؟ وما بالُك ؟ وما شأنك : أن تنصب فعلها إذا كان اسما ، وترفَعه إذا كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو النون أو الألف ؛ كقول الشاعر :

*** مالك تَرْغِين ولا تَرْغُو الخَلِفْ ***

الَخلِفَة : التي في بطنها ولدها .

وأما إذا قال ( أن ) فإنه مِما ذهب إلى المعنى الذي يحتمل دخول ( أن ) ؛ ألا ترى أن قولك للرجل : مالك لا تصلى في الجماعة ؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلى ، فأدخلت ( أن ) في ( مالك ) إذ وافق معناها معنى المنع . والدليل على ذلك قول الله عزَّ وجلَّ : { ما مَنَعَكَ أن لا تسجد إذ أمرتك } وفي موضع آخر : { مالك ألاّ تكون مع الساجدين } وقصة إبليس واحدة ، فقال فيه بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا . ومثله ما حُمِل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ قول الشاعر :

يقول إذا اقْلَوْلى عليها وأقْرَدَتْ *** ألا هل أخو عيشٍ لذيذ بدائم

فأدخل الباء في ( هل ) وهي استفهام ، وإنما تدخل الباء في ما الجحدِ ؛ كقولك : ما أنت بقائل . فلما كانت النيّة في ( هل ) يراد بها الجحد أُدخِلت لها الباء . ومثله قوله في قراءة عبد الله " كَيْفَ يكونُ لِلمشْرِكين عَهْدٌ " : ليس للمشركين . وكذلك قول الشاعر :

فاذهب فأي فتىً في الناس أحرزه *** من يومه ظُلَمٌ دُعْج ولا جَبَل

( رد عليه بلا ) كأن معنى أي فتى في الناس أحرزه معناه : ليس يُحرِز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل . وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : أين كنتَ لتنجو منى ! لأن المعنى : ما كنت لتنجو منى ، فأدخل اللام في ( أين ) لأن معناها جحد : ما كنت لتنجو منى . وقال الشاعر :

فهذى سيوف يا صُدَىُّ بن مالك *** كثير ولكن أين بالسيف ضارب

أراد : ليس بالسيف ضارب ، ولو لم يرد ( ليس ) لم يجز الكلمة ؛ لأن الباء من صلة ( ضارب ) ولا تقدّم صلة اسم قبله ؛ ألا ترى أنك لا تقول : ضربت بالجارية كفيلا ، حتى تقول : ضربت كفيلا بالجارية . وجاز أن تقول : ليس بالجارية كفيل ؛ لأن ( ليس ) نظيرة ل ( ما ) ؛ لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن ( ما ) لا ترفعه .

وقال الكسائي في إدخالهم ( أنْ ) في ( مالَك ) : هو بمنزلة قوله : " مالكم في ألا تقاتلوا " ولو كان ذلك على ما قال لجاز في الكلام أن تقول : مالك أَنْ قمت ، ومالك أنك قائم ؛ لأنك تقول : في قيامك ، ماضيا ومستقبلا ، وذلك غير جائز ؛ لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال ؛ تقول : منعتك أن تقوم ، ولا تقول : منعتك أن قمتَ . فلذلك جاءت في ( مالك ) في المستقبل ولم تأت في دائم ولا ماض . فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك . وقد قال بعض النحويين : هي مما أضمِرت فيه الواو ، حذِفت من نحو قولك في الكلام : مالك ولأن تذهب إلى فلان ؟ فألقى الواو منها ؛ لأن ( أن ) حرف ليس بمتمكن في الأسماء .

فيقال : أتجيز أن أقول : مالك أن تقوم ، ولا أجيز : مالك القيام [ فقال ] : لأن القيام اسم صحيح و( أن ) اسم ليس بالصحيح . واحتجّ بقول العرب : إياك أن تتكلم ، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم . فردّ ذلك عليه أن العرب تقول : إياك بالباطل أن تنطق ، فلو كانت الواو مضمرة في ( أن ) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها ؛ ألا ترى أنه غير جائز أن تقول : ضربتك بالجارية وأنت كفيل ، تريد : وأنت كفيل بالجارية ، وأنك تقول : رأيتك وإيّانا تريد ، ولا يجوز رأيتك إيَّانا وتريد ؛ قال الشاعر :

فبُحْ بالسرائر في أهلها *** وإيّاك في غيرهم أن تبوحا

فجاز أن يقع الفعل بعد ( أن ) على قوله ( في غيرهم ) ، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو في ( أن ) لا يجوز .

وأما قول الشاعر :

*** فإياك المَحايِن أن تحينا ***

فإنه حذّره فقال : إياك ، ثم نوى الوقفة ، ثم استأنف ( المحاين ) بأمر آخر ، كأنه قال : احذر المحايِن ، ولو أراد مثل قوله : ( إيّاك والباطلَ ) لم يجز إلقاء الواو ؛ لأنه اسم أُتبع اسما في نصبه ، فكان بمنزلة قوله في [ غير ] الأمر : أنت ورأيُكَ وكلُّ ثوب وثمنُه ، فكما لم يجز أنت رأيك ، أو كلُّ ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز : ( إيَّاك الباطل ) وأنت تريد : إيّاك والباطل .