الملأُ من القَوْمِ وجوههم ، وأشرافهم ، وهو اسم للجماعة من النَّاس لا واحد لهُ من لفظه كالرَّهْطِ والقومِ ، والجيشِ ، والمَلأُ : الأَشرافُ سُمُّوا بذلك ؛ لأنهم يملئون العيونَ هيبةً ، أو المجالسَ إذا حضروا ؛ أو لأنهم مليئون بما يُحْتاج إليهم فيه ، وقال الفرَّاءُ : " المَلأُ " الرجالُ في كلِّ القرآن ، وكذلك القومُ والرَّهطُ والنَّفَرُ ، ويُجْمع على أَمْلاء ؛ قال : [ الطويل ]
وَقَالَ لَهَا الأَمْلاَءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ *** وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا{[4054]}
قال القرطبي{[4055]} : والملأ أيضاً حسن الخلق ، ومنه الحديث : " أَحْسنُوا الملأَ فكلُّكُمْ سيروى " أخرجه مسلم{[4056]} .
قوله تعالى : " من بني " فيه وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ صلةٌ للملأ على مذهب الكُوفيين ؛ لأنهم يجعلون المُعَرَّفَ بأل موصولاً ؛ ويُنْشِدُون : [ الطويل ]
لَعَمْرِي لأَنْتَ الَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ *** وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ{[4057]}
و{ مِن بَعْدِ مُوسَى } متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [ به ] الجارُّ الأولُ ، وهو الاستقرار ، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى ، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية . وقال أبو البقاء{[4058]} : " مِنْ بعدِ " متعلِّقٌ بالجار الأول ، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ : " من بني " ، وجعله عاملاً في " مِنْ بعد " لِما تضمنَّه من الاستقرار ، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه ، وهذا على رأي بعضِهم ، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً ، فتقول في نحو : " زيدٌ في الدار أبوه " أبوه : فاعلٌ بالجارِّ ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ ، وهو الوجهُ الثاني . وقدَّر أبو البقاء{[4059]} مضافاً محذوفاً . تقديرُه : من بعدِ موسى ، ليصِحَّ المعنى بذلك .
قوله : " إِذْ قَالوا " العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين :
أحدهما : أنه العاملُ في " مِنْ بعد " لأنَّه بدلٌ منه ، إذ هما زمانان ، قاله أبو البقاء{[4060]} : والثاني : أنه " ألم تر " قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ .
أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى . فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة " مِنْ " و " إذ " لا تُجَرُّ ب " مِنْ " . الثاني : أنه ولو كانَتْ " إذ " من الظروف التي تُجَرُّ ب " مِنْ " كوقت وحين لم يصِحَّ [ ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في " مِنْ بعد " محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره : كائنين من بعد ، ولو قلت : كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ ] هذا المعنى .
وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى " ألم تر " تقريرٌ للنفي ، والمعنى : ألم ينته علمُك ، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك ، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما ؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ ، تقديره : ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ أو ما في معناه ؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها ، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها ، فصار المعنى : ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها ، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم .
قوله تعالى : " لِنَبِيٍّ " متعلِّقٌ ب " قالوا " واللامُ فيه للتبليغ ، و " لهم " متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي ، ومحلُّه الجرُّ ، و " ابعَثْ " وما في حيِّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ . و " لنا " الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ ، واللامُ للتعليلِ أي : لأجلِنا .
قوله : " نقاتِلْ " الجمهورُ بالنونِ والجزم على جواب الأمر . وقرئ{[4061]} بالياء والجزم على ما تقدَّم ، وابن{[4062]} أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللام على الصفةِ لملكاً ، فمحلُّها النصبٌ أيضاً . [ وقرئ بالنونِ ورفع اللام على أنها حالٌ من " لنا " فمحلُّها النصبُ أيضاً ] أي : ابعَثْه لنا مقدِّرين القتال ، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم : ما يَصْنعون بالملكِ ؟ فقالوا نقاتِلْ .
قوله : " هَلْ عَسَيْتُمْ " عسى واسمها ، وخبرها " أَنْ لا تقاتِلوا " والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه ، وهذا كما توسَّط في قوله :
{ وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة :70 ] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ " عسى " داخلةً على المبتدأ والخبر ، ويقولُ إنَّ " أَنْ " زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين . وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعل متعدٍّ فيقول : " عَسَيْتم " فعلٌ وفاعلٌ ، و " أَنْ " وما بعدها مفعولٌ به تقديره : هل قارَبْتُم عدم القتالِ ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ ، والأولُ هو المشهورُ .
وقرأ نافع{[4063]} " عَسِيْتُم " هنا وفي القتال : بكسر السينِ ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً ومع نا [ ومع ] نونِ الإناثِ نحو : عَسِينا وعَسِين ، وهي لغةُ الحجاز ، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال : " عسى تُكْسَرُ مع المضمر " وأَطْلَقَ ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ الضمير بما ذكرنا ، إذ لا يقال : الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة .
وقال الفارسي : " ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ : " هو عَس بكذا " مثل : حَرٍ وشَج ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو : نَقَم ونَقِم ، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ ، فإِنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال : " عَسِيَ زيدٌ " مثل : " رَضِي زيدٌ " .
فإن قيل : فهو القياسُ ، وإِنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين ، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره " فظاهرُ هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهِر بطريق القياسِ على المضمرِ ، وغيرهُ من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً ، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً ، وظاهرُ قوله " قولُ العرب : عَسٍ " أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها ، وكذلك حكاه أبو البقاء{[4064]} أيضاً عن ابن الأعرابي ، وقد نَصَّ النحاة على أن " عسى " لا تتصرَّف .
واعلم أنَّ مدلولَ " عسى " إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق ، فعلى هذا : فكيف دَخَلت عليها " هل " التي تقتضي الاستفهامَ ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى ، قال الزمخشري : " والمعنى : هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا ، يعني : هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون ، أراد أن يقول : عَسَيْتُم ألا تقاتلوا ، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ ، فأدخلَ " هل " مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه ؛ كقوله تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ } [ الإنسان :1 ] معناه التقريرُ " وهذا من أَحسنِ الكلامِ ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها ؛ وبوقوعها خبراً ل " إنَّ " في قوله : [ الرجز ]
لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا{[4065]} *** . . .
وهذا لا دليلَ فيه ؛ لأنه على إضمار القول ؛ كقوله : [ البسيط ]
إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ *** لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا{[4066]}
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات ؛ خلافاً لهشامٍ .
قوله : { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ } هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه ، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله . و " ما " في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، ومعناها الاستفهامُ ، وهو استفهامُ إنكارٍ . و " لنا " في محلِّ رفع خبر ل " ما " .
و " أَلاَّ نُقَاتِلَ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ .
أظهرها : أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ : وما لنا في ألاَّ نقاتل ، أي : في تركِ القتالِ ، ثم حُذِفَتْ " في " مع " أَنْ " فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه : أهي في محلِّ جر أم نصبٍ ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو " لنا " أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في " مِنْ بعد موسى " {[4067]} .
قال البغوي{[4068]} : فإن قيل : فما وجه دخول " أن " في هذا الموضع ، والعرب لا تقول ما لك ألاَّ تفعل ، وإنما يقال : ما لك لا تفعل ؟ قيل : دخول " أن " وحذفها لغتان صحيحتان ، فالإثبات كقوله تعالى : { مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [ الحجر :32 ] ، والحذف كقوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ }
[ الحديد :8 ] وقال الفراء : الكلام هاهنا محمول على المعنى ؛ لأن قولك : ما لك لا تقاتل ؟ معناه : ما يمنعك أن تقاتل ، فلما كان معناه المنع حسن إدخال " أن " فيه كقوله { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص :75 ] وقوله : { أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [ الحجر :32 ] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء .
قال : لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي أولى .
الثاني : مذهب الأخفش أنَّ " أَنْ " زائدةٌ ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها ، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة ، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنه قيل : ما لنا غير مقاتلين ، كقوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح :13 ] { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة :84 ] وقول العرب : " ما لك قائماً " ، وقول الله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر :49 ] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة ، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ .
الثالث : - وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله : " أن لا نقاتلَ " . قال : " تقديره : وما لنا ولأن لا نقاتل ، كقولك : إياك أن تتكلَّم ، أي : إياك وأن تتكلم ، فحذفت الواو " وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً . وأمَّا قوله : إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو ؛ فليس كما زعم ، بل " إياك " ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير ، و " أَنْ تتكلمَ " في محلِّ نصبٍ به تقديره : احذر التكلم .
قوله : " وَقَدْ أُخْرِجْنَا " هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعامل فيها : " نقاتلْ " ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال . وهذه قراءة الجمهور ، أعني بناء الفعل للمفعول .
وقرأ عمرو{[4069]} بن عبيد : " أَخْرَجَنا " على البناء للفاعل . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الله تعالى ، أي : وقد أخرجنا الله بذنوبنا .
" وأبنائنا " عطفٌ على " ديارنا " أي : ومن أبنائنا ، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره : " ومن بين أبنائنا " كذا قدره أبو البقاء{[4070]} . وقيل : إنَّ هذا على القلب ، والأصل : وقد أُخرج أبناؤنا منا ، ولا حاجة إلى هذا .
قوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّواْ } ، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا .
قوله : " إِلاَّ قَلِيلاً " نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل " تَوَلَّوا " فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً ، لو قلت : " قام القومُ لا رجالاً " لم يصحَّ ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ " قليلاً " في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله : " منهم " ، فقرب من الاختصاص بذلك .
وقرأ أُبي{[4071]} : " إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم " وهو استثناءٌ منقطعٌ ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ . ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها . وذلك أنّ العرب تقول : " قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً " بالرفع والنصب ، فالرفع على جعل " كان " تامةً ، و " زيدٌ " فاعلٌ ، والنصب على جعلها ناقصةً ، و " زيداً " خبرها ، واسمها ضميرٌ عائدٌ على البعض المفهوم من قوة الكلام ، والتقدير : قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً ، والمعنى : قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين ، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه ، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين ، أعني " قام القوم إلا زيداً " و " قاموا إلا أن يكون زيداً " ، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ ، والثاني منقطعٌ لما قررناه .
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } [ البقرة :244 ] ، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ } [ البقرة :245 ] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال ، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا ، وخالفوا ؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله : { وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } والمراد التَّرغيب في الجهاد .
فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية
اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له { ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً } من هو فقال قتادة : هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى : { مِن بَعْدِ مُوسَى }{[4072]} وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله { مِن بَعْدِ مُوسَى } كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب ، وإن كان بينهما غير يوشع ؛ لأنَّ البعديّة حاصلة ، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس ، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام .
وقال السُّدِّيُّ : اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك ؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً ، فاستجاب الله دعاءها ، فسمته سمعون ، أي : سمع الله دعائي{[4073]} ، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة ، من ولد لاوي بن يعقوب .
وقال سائر المفسِّرين : هو اشمويل بن هلقايا .
كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك ؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة ، وأمر الله ، حتى قبضه الله ، ثمَّ خلف فيهم " كالِب بْنَ يُوفَنَا " ؛ حتى قبضه الله ، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله ، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله ؛ حتى عبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم " إِلْياسَ " نبياً ، فدعاهم إلى الله ، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى ، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة ، ثم خلف بعد " إِلْيَاسَ " " أَلْيَسَع " ، وكان فيهم ما شاء الله ؛ حتَّى قبضه الله ، وخلف فيهم الخلوف ، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا ، وهم قوم " جَالُوتَ " ، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم ، بين مصر ، وفلسطين ، وهم العمالقة ، فظهروا على بني إسرائيل ، وغلبوا على كثير من أرضهم ، وسبوا كثيراً من ذراريهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً ، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم ، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلاَّ امرأة حبلى ؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً ، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً ؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول : سمع الله دعائي ، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه ، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل ، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ ، وكان لا يأتمن عليه أحداً ، فدعاه جبريل بلحن الشيخ : يا أُشمويل ، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ وقال : يا أبتاه دعوتني ؟ فكره الشَّيخ أن يقول : لا فيفزع الغلام ، فقال : يا بنيّ ارجع فنم ، فرجع الغلام ، فَنَامَ ، ثمَّ دعاه الثَّانية ، فقال الغلام : يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي ؟ ! فقال : ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة ؛ فلا تجبني ، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك ؛ فبلغهم رسالة ربِّك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً ، فلمَّا أتاهم كذَّبوه ، وقالوا له : استعجلت بالنُّبوَّة ، ولم تَنَلْكَ ، وقالوا : إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آيةً من نبوَّتك ، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك لأنبيائهم ، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنَّبيُّ يقوم له بأمره ، ويشير عليه برشده ، ويأتيه بالخبر من عند ربِّه{[4074]} .
قال وهبٌ : بعث الله أُشمويل نبيّاً ، فلبثوا أربعين سنةً بأحسن حال ، ثمَّ كان من أمر جالوت ، والعمالقة ما كان فقالوا لأُشمويل : " ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل " ، فقال : " هَلْ عَسَيْتُم " ؟ ! استفهام شكٍّ ، أي : لعلكم " إِنْ كُتِبَ " أي : فرض " عَلَيْكُمُ القِتَالُ " مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون ، ولا تقاتلوا معه " قَالُوا : وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا " ، فجعلوا ذلك علَّةً قويَّة توجب التَّشديد في أمر الجهاد ؛ لأنَّ من بلغ منه العدوُّ هذا المبلغ ، فالظَّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوِّه ومقاتلته ، وظاهر الكلام العموم ، والمراد الخصوص ؛ لأنَّ الذين قالوا لنبيِّهم : ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنَّما أخرج من أسر منهم ، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيّهم : إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا ، لا يظهر علينا عدوٌّ ، فأمَّا إذْ بلغ ذلك منَّا ، فنطيع ربَّنا في الجهاد ، ونمنع نساءنا ، وأولادنا ، { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا } : أعرضوا عن الجهاد ، وضيَّعوا أمر الله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } - وهم الذين عبروا النَّهر مع طالوت ، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قيل{[4075]} : كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدرٍ .