في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰٓ إِذۡ قَالُواْ لِنَبِيّٖ لَّهُمُ ٱبۡعَثۡ لَنَا مَلِكٗا نُّقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ قَالَ هَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْۖ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ تَوَلَّوۡاْ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (246)

243

ثم يورد السياق التجربة الثانية ، وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد موسى :

( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله . قال : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ! قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم . والله عليم بالظالمين ) . .

ألم تر ؟ كأنها حادث واقع ومشهد منظور . . لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل ، من كبرائهم وأهل الرأي فيهم - إلى نبي لهم . ولم يرد في السياق ذكر اسمه ، لأنه ليس المقصود بالقصة ، وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة ، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل . . لقد اجتمعوا إلى نبي لهم ، وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته ( في سبيل الله ) . . وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال ، وأنه في ( سبيل الله )يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم ، ويقظة الإيمان في نفوسهم ، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق ، وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل ؛ ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله .

وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر . فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل ؛ ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف . . في سبيل الله . . فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير .

وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم ، وثبات نيتهم ، وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة ، وجدهم فيما يعرضون عليه من الأمر :

( قال : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ! ) . .

ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم ؟ فأنتم الآن في سعة من الأمر . فأما إذا استجبت لكم ، فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة ؛ ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها . . إنها الكلمة اللائقة بنبي ، والتأكد اللائق بنبي . فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ .

وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة ؛ وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه :

( قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؟ ) . .

ونجد أن الأمر واضح في حسهم ، مقرر في نفوسهم . . إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله . وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم . فقتالهم واجب ؛ والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال ؛ ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال .

ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم . ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية :

( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) . .

وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد ، والنكث بالوعد ، والتفلت من الطاعة ، والنكوص عن التكليف ، وتفرق الكلمة ، والتولي عن الحق البين . . ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية ؛ فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقةالتأثير . وهي - من ثم - سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر ، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر ، كي لا تفاجأ بها ، فيتعاظمها الأمر ! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب ، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل .

والتعقيب على هذا التولي :

( والله عليم بالظالمين ) . .

وهو يشي بالاستنكار ؛ ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة - بعد طلبها - وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية . . وصمها بالظلم . فهي ظالمة لنفسها ، وظالمة لنبيها ، وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق ، ثم تتخلى عنه للمبطلين !

إن الذي يعرف أنه على الحق ، وأن عدوه على الباطل - كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا ( في سبيل الله ) . . ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه . . إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم . . ( والله عليم بالظالمين ) . .