قوله تعالى : { وإن من شيء } ، أي : وما من شيء ، { إلا عندنا خزائنه } ، أي مفاتيح خزائنه . وقيل : أرد به المطر . { وما ننزله إلا بقدر معلوم } ، لكل أرض حد مقدر ، ويقال : لا تنزل من السماء قطرة إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله عز وجل ويشاء . وعن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده قال : في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر والبحر ، وهو تأويل قوله تعالى : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } .
{ 21 } { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }
أي : جميع الأرزاق وأصناف الأقدار لا يملكها أحد إلا الله ، فخزائنها بيده يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، بحسب حكمته ورحمته الواسعة ، { وَمَا نُنَزِّلُهُ } أي : المقدر من كل شيء من مطر وغيره ، { إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } فلا يزيد على ما قدره الله ولا ينقص منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مّعْلُومٍ } .
يقول تعالى ذكره : وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر لكل أرض ، معلوم عندنا حدّه ومبلغه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن رجل ، عن عبد الله ، قال : ما من أرض أمْطَرُ من أرض ، ولكن الله يقدره في الأرض . ثم قرأ : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُهُ وَما نُنَزّلِهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي جحيفة ، عن عبد الله ، قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه عمن يشاء . ثم قال : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُهُ .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي جحيفة ، عن عبد الله بن مسعود : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يقسمه حيث شاء ، عاما ههنا وعاما ههنا . ثم قرأ : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُهُ وَما نُنَزّلِهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُهُ وَما نُنَزّلِهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ قال : المطر خاصة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الحكم بن عتيبة ، في قوله : وَما نُنَزّلِهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ قال : ما من عام بأكثر مطرا من عام ولا أقلّ ، ولكنه يمطر قوم ويُحرم آخرون ، وربما كان في البحر . قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كلّ قطرة حيث تقع وما تُنبت .
وقوله : { وإن من شيء }{[7146]} قال ابن جريج : وهو المطر خاصة .
قال القاضي أبو محمد : وينبغي أن تكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات .
و «الخزائن » المواضع الحاوية ، وظاهر هذا أن الماء والريح ونحو ذلك موجود مخلوق ، وهو ظاهر في قولهم في الريح : عتت على الخزان وانفتح منها قدر حلقة الخاتم ، ولو كان قدر منخر الثور لأهلك الأرض ؛ إلى غير هذا من الشواهد . وذهب قوم إلى أن كونها في القدرة هو خزنها ، فإذا شاء الله أوجدها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أيضاً ظاهر في أشياء كثيرة . وهو لازم في الاعتراض إذا عممنا لفظة { شيء } وكيفما كان الأمر فالقدرة تسعه وتتقنه .
وقوله : { ننزله } ما كان من المطر ونحوه : فالإنزال فيه متمكن ، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به ، إنزال على تجوز .
وقرأ الأعمش : «وما نرسله »{[7147]} .
وقوله : { بقدر معلوم } روي فيه عن ابن مسعود وغيره : أنه ليس عام أكثر مطراً من عام ، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع .
هذا اعتراض ناشىء عن قوله { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } [ سورة الحجر : 19 ] الآية . وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى { يأخذ كل سفينة غصباً } [ سورة الكهف : 79 ] أي سفينةٍ صالحةٍ .
والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة . شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المَكنية ، ورُمز إلى الهيئة المشبّه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن . وتقدم عند قوله تعالى : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } في سورة الأنعام ( 50 ) .
وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب في أحوال مخصوصة ، أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البَرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة .
وقوله { وما ننزله إلا بقدر معلوم } أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم ، قال تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } في سورة البقرة ( 29 ) ، إطلاقاً مجازياً لأن ما خلقه الله لمّا كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبّه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني ، وهو علو معنوي ، أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية ، وهذا كقوله تعالى { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } في سورة الزمر ( 6 ) ، وقوله تعالى : { يتنزل الأمر بينهن } في سورة الطلاق ( 12 ) .
والقَدر بفتح الدال : التقدير . وتقدم عند قوله تعالى { فسالت أودية بقدرها } في سورة الرعد ( 17 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} يقول: ما من شيء من الرزق إلا عندنا مفاتيحه، وهو بأيدينا ليس بأيديكم، {وما ننزله} يعني: الرزق، وهو المطر وحده، {إلا بقدر معلوم}، يعني: موقوت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر لكل أرض، معلوم عندنا حدّه ومبلغه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} يحتمل هذا، والله أعلم {وإن من شيء} يخزن في الخلق {إلا عندنا خزائنه} أي إلا عندنا تلك الخزائن، أي ما تخزنون من الأشياء فذلك عندنا، وفي خزائننا.
وقوله تعالى: {وما ننزله إلا بقدر معلوم} على هذا {وما ننزله}: وما نعطيه {إلا بقدر معلوم} أي وإن كان عندكم مخزونا محبوسا فإن ذلك كله من خزائنه، أعطى من شاء، وحرم من شاء.
ويحتمل قوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} الخزائن، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال، وبواطن من الأرض. يقول، والله أعلم، {وإن من شيء} كان في بواطن الأرض وأمكنة خفية {إلا عندنا} تدبير ذلك وعلمه؛ يخبر أن تدبيره وعلمه في الخفية من الأمكنة كهو في الظاهر؛ لا يخرج شيء عن تدبيره، بل كل ذلك في تدبيره وعلمه.
وقال الحسن: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} أي الماء الذي به جعل حياة كل شيء، ولا يخرج شيء عن منافعه فهو خزانة الأشياء كلها، وقوام كل شيء، وقال: ألا ترى أنه قال: {وما ننزله إلا بقدر معلوم} وذكر الإنزال، وهو الذي ينزل من السماء ظاهرا؟...
وفي الماء قوة ومعنى، يكون فيه حياة الخلق ومنافعهم في ما جعل فيه لا في نفس الماء. ألا ترى أنه يصيب عروق الشجر، فتظهر منافعه في غصونها في أعلاها؟ فثبت أن فيه قوة سرية ومعنى، تكون المنافع بها لا بنفس الماء، والله أعلم بذلك. ثم ما ذكر من الخزائن والرياح والماء والمطر وغير ذلك من النعم يذكر على الاحتجاج عليهم، لأنه إنما أنشأ هذه الأشياء وخلقها لهؤلاء لا أنه أنشأها لنفسها. فإذا كان أنشأها لهم، فلا يحتمل أن يتركهم، ولا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم، ولا يجعل لهم عاقبة يثابون ويعاقبون. ولذلك قال في آخر: {وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} (الحجر: 25).
{إلا بقدر معلوم} على التأويل الأول ما ذكرنا، أي ما نعطيه {إلا بقدر معلوم} وإن خزنه، وحبسه، ويحتمل {إلا بقدر معلوم} بقدر سابق معلوم ذلك، أي إن كان على هذا فإنه يدل على أن ما يكون، ويحدث، إنما يكون بقدر سابق، لا يكون غير ما سبق تقديره، أو {بقدر معلوم} محدود، أي ليس ينزل جزافا، ولكن معلوما محدودا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وإن من شيء إلا عندنا خزائنه" فخزائن الله مقدوراته، لأنه تعالى يقدر أن يوجد ما شاء من جميع الأجناس، فكأنه قال: وليس من شيء إلا والله تعالى قادر على ما كان من جنسه إلى ما لانهاية له.
"معلوم" أي: ما يصلحهم وينفعهم دون ما يفسدهم ويضرهم، حسب ما سبق في علمي.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
...ويقال من عرف أن خزائن الأشياء عند الله تقاصرت خُطَاه عن التردد على منازل الناس في طَلَبِ الإرفاق منهم، وسعى في الآفاق في طلب الأرزاق منها، قاطعاً أَمَلَه عن الخَلْق، مُفرِداً قلبَه لله متجرِّداً عن التعلُّق بغير الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ذكر الخزائن تمثيل. والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ننزله}، ما كان من المطر ونحوه: فالإنزال فيه متمكن، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به، إنزال على تجوز.
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}. وهذا هو النوع الرابع: من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد...
{وما ننزله إلا بقدر معلوم}...لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد، وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكما من غير دليل. وأقول أيضا: تخصيص قوله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} بالمطر تحكم محض، لأن قوله: {وإن من شيء} يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وهو الموجود القديم الواجب لذاته...
وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له، ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهيا لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال...فقوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية
{وما ننزله إلا بقدر معلوم} إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه، ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهيا كان لا محالة مختصا في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلا عنه وكان مختصا بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلا عن ذلك الحيز، وكان مختصا بصفات معينة، مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلا عن تلك الصفات، وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين والصفات المعينة بدلا عن أضدادها، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وهذا هو المراد من قوله: {وما ننزله إلا بقدر معلوم}..والمعنى: أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة. والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} وقوله: {وأنزلنا الحديد} والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" وما ننزله إلا بقدر معلوم "أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه، كما قال:"ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء "[الشورى: 27].
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن يطلب كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وإن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده، ولا يقدر عليه. وقوله: {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به، وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى. وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها. فانتهت إلى خلقه ومشيئته. وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب. وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه. فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} واجتمع ما يراد له كله في قوله: {وأن إلى ربك المنتهى} فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر، تعالى، أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل عليه، يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف، {وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} كما يشاء وكما يريد، ولما لَهُ في ذلك من الحكمة البالغة، والرحمة بعباده، لا على وجه الوجوب، بل هو كتب على نفسه الرحمة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
...الخزائنُ: جمع الخِزانة وهي ما يحفظ فيه نفائسُ الأموال لا غيرُ، غلَب في العرف على ما للملوك والسلاطينِ من خزائن أرزاقِ الناس، شُبِّهت مقدوراتُه تعالى الفائقةُ للحصر المندرجةُ تحت قدرتِه الشاملة في كونها مستورةً عن علوم العالمين ومصونةً عن وصول أيديهم مع كمال افتقارِهم إليها ورغبتِهم فيها، وكونِها مهيأةً متأتّيةً لإيجاده وتكوينه، بحيث متى تعلقت الإرادةُ بوجودها وُجدت بلا تأخر بنفائس الأموالِ المخزونةِ في الخزائن السلطانيةِ، فذكرُ الخزائن على طريقة الاستعارةِ التخييلية ...
وحيث كان إنشاءُ ذلك بطريق التفضّل من العالم العلويِّ إلى العالم السفلي كما في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} وكان ذلك بطريق التدريج عبّر عنه بالتنزيل، وصيغةُ المضارع للدلالة على الاستمرار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الأرزاق -ككل شيء- مقدرة في علم الله، تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم).. فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئا، إنما خزائن كل شيء -مصادره وموارده- عند الله. في علاه. ينزله على الخلق في عوالمهم (بقدر معلوم) فليس من شيء ينزل جزافا، وليس من شيء يتم اعتباطا. ومدلول هذا النص المحكم: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة، وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه. ومدلول (خزائنه) يتجلى في صورة أقرب بعدما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي؛ وطبيعة تركيبها وتحليلها -إلى حد ما- وعرف مثلا أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الايدروجين والأكسجين! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون! وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضا! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها.. وهو شيء على كثرته قليل قليل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا اعتراض ناشئ عن قوله {وأنبتنا فيها من كل شيء موزون} [سورة الحجر: 19] الآية. وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى {يأخذ كل سفينة غصباً} [سورة الكهف: 79] أي سفينةٍ صالحةٍ. والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة. شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المَكنية، ورُمز إلى الهيئة المشبّه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن..
وقوله {وما ننزله إلا بقدر معلوم} أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم، قال تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} في سورة البقرة (29)، إطلاقاً مجازياً لأن ما خلقه الله لمّا كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبّه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني...
والقَدر بفتح الدال: التقدير. وتقدم عند قوله تعالى {فسالت أودية بقدرها} في سورة الرعد (17). والمراد {بمعلوم} أنه معلوم تقديره عند الله تعالى.
{وإن من شيءٍ} أي: أنه لا يوجد جنس من الأجناس إلا وله خزائن عند الله سبحانه، فالشيء الذي قد تعتبره تافهاً له خزائن؛ وكذلك الشيء النفيس، وهو سبحانه ينزل كل شيء بقدرٍ؛ حتى الاكتشافات العلمية ينزلها بقدرٍ. وحين نحتاج إلى أي شيء مخزون في أسرار الكون؛ فنحن نعمل عقولنا الممنوحة لنا من الله لنكتشف هذا الشيء. والمثل هو الوقود وكنا قديماً نستخدم خشب الأشجار والحطب. وسبحانه هو القائل: {أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} (سورة الواقعة 71-72) واتسعت احتياجات البشر فاكتشفوا الفحم الذي كان أصله نباتاً مطموراً أو حيواناً مطموراً في الأرض؛ ثم اكتشف البترول، وهكذا. أي: أنه سبحانه لن ينشئ فيها جديداً، بل أعد سبحانه كل شيء في الأرض، وقدر فيها الأقوات من قبل أن ينزل آدم عليه السلام إلى الأرض من جنة التدريب ليعمر الأرض، ويكون خليفة لله فيها، هو وذريته كلها إلى أن تقوم الساعة. فإذا شكونا من شيء فهذا مرجعه إلى التكاسل وعدم حسن استثمار ما خلقه الله لنا وقدره من أرزاقنا في الأرض. ونرى التعاسة في كوكب الأرض رغم التقدم العلمي والتقني؛ ذلك أننا نستخدم ما كنزه الحق سبحانه ليكون مجال سعادة لنا في الحروب والتنافر. ولو أن ما يصرف على الحروب؛ تم توجيهه إلى تنمية المجتمعات المختلفة لعاش الجميع في وفرة حقيقية. ولكن سوء التنظيم وسوء التوزيع الذي نقوم به نحن البشر هو المسبب الأول لتعاسة الإنسان في الأرض؛ ذلك أنه سبحانه قد جعل الأرض كلها للأنام، فمن يجد ضيقاً في موقع ما من الأرض فليتجه إلى موقع آخر. ولكن العوامل السياسية وغير ذلك من الخلافات بين الناس تجعل في أماكن في الأرض؛ رجالاً بلا عمل؛ وتجعل في أماكن أخرى ثروة بلا استثمار؛ ونتجاهل قوله سبحانه: {وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه}، فلكل شيء في الأرض خزائن؛ والخزينة هي المكان الذي تدخر فيه الأشياء النفيسة، والكون كله مخلوق على هيئة أن الحق سبحانه قدر في الأرض أقواتاً لكل الكائنات من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. فإن حدث تضييق في الرزق فاعلموا أن حقاً من حقوق الله قد ضيع، إما لأنكم أهملتم استصلاح الأرض وإحياء مواتها بقدر ما يزيد تعداد السكان في الأرض، وإما أنكم قد كنزتم ما أخذتم من الأرض، وضننتم بما اكتنزتموه على سواكم. فإن رأيت فقيراً مضيعاً فاعلم أن هناك غنياً قد ضن عليه بما أفاض الله على الغني من رزق، وإن رأيت عاجزاً عن إدراك أسباب حياته فاعلم أن واحداً آخر قد ضن عليه بقوته. وإن رأيت جاهلاً فاعلم أن عالماً قد ضن عليه بعلمه. وإن رأيت أخرق فاعلم أن حكيماً قد ضن عليه بحكمته؛ فكل شيء مخزون في الحياة؛ حتى تسلم حركة الحياة؛ سلامة تؤدي إلى التساند والتعاضد؛ لا إلى التعاند والتضارب. ونعلم أنه سبحانه قد أعد لنا الكون بكل ما فيه قبل أن يخلقنا؛ ولم يكلفنا قبل البلوغ؛ ذلك أن التكليف يحدد اختيار الإنسان لكثير من الأشياء التي تتعلق بكل ملكات النفس؛ قوتاً ومشرباً وملبساً ومسكناً وضبطاً للأهواء، كي لا ننساق في إرضاء الغرائز على حساب القيم. وشاء سبحانه ألا يكون التكليف إلا بعد البلوغ؛ حتى يستوفي ملكات النفس القوة والاقتدار، ويكون قادراً على إنجاب مثيل له، ولكي يكون هذا التكليف حجة على الإنسان، هذا الذي طمر له الحق سبحانه كل شيء إما في الأرض، أو كان طمراً في النوع، أو في الجنس. وكل شيء في الكون موزون، إما أن يكون جنساً، أو نوعاً، أو أفراداً؛ والميزان الذي توجد به كل تلك العطاءات؛ إنما شاء به الحق سبحانه أن يهب الرب للكل؛ وليوافق الكثرة؛ وليعيش الإنسان في حضن الإيمان. وهكذا يكون عطاء الله لنا عطاء ربوبية، وعطاء ألوهية، والذكي حقاً هو من يأخذ العطاءين معاً لتستقيم حياته. والحق سبحانه هو القائل: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً "100 "} (سورة الإسراء). ومن يفعل ذلك إنما يفعل في ظاهر الأمر أنه يؤثر الغير على نفسه؛ ولكن الواقع الحقيقي أنه يطمع فيما أعده الله له من حسن جزاء في الدنيا وفي الآخرة. إذن: فأصل العملية الدينية أيضاً هو الذات؛ ولذلك نجد من يقول: أنا احب الإيمان؛ لأن فيه الخيرية، يقول الحق سبحانه: {وإنه لحب الخير لشديد} (سورة العاديات 8) ونعلم أن الحق سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم أثرياء؛ ولم يجعل يداً عليا ويداً سفلى، لكنه سبحانه لم يشأ ذلك؛ ليجعل الإنسان ابن أغيار؛ ويعدل فيه ميزان الإيمان، وليدك غرور الذات على الذات، وليتعلم الإنسان أن غروره على ربه لن ينال من الله شيئاً، ولن يأتي للإنسان بأي شيء. وكل مظاهر القوة في الإنسان ليست من عند الإنسان، وليست ذاتية فيه، بل هي موهوبة له من الله؛ وهكذا شاء الحق سبحانه أن يهذب الناس ليحسنوا التعامل مع بعضهم البعض. ولذلك أوضح سبحانه أن عنده خزائن كل شيء، ولو شاء لألقى ما فيها عليهم مرة واحدة؛ ولكنه لم يرد ذلك ليؤكد للإنسان أنه ابن أغيارٍ؛ وليلفتهم إلى معطي كل النعم. كما أن رتابة النعمة قد تنسي الإنسان حلاوة الاستمتاع بها، وعلى سبيل المثال أنت لا تجد إنساناً يتذكر عينه إلا إذا آلمته؛ وبذلك يتذكر نعمة البصر، بل وقد يكون فقد النعمة هو الملفت للنعمة، وذلك لكي لا ينسي أحد أنه سبحانه هو المنعم...