إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ} (21)

{ وَإِن مّن شيء } إن للنفي ومن مزيدة للتأكيد وشيءٍ في محل الرفع على الابتداء ، أي ما من شيء من الأشياء الممكنةِ ، فيدخُل فيه ما ذكر دخولاً أولياً { إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } الظرفُ خبرٌ للمبتدأ ، وخزائنُه مرتفعٌ به على أنه فاعله لاعتماده ، أو خبر له ، والجملة خبر للمبتدأ الأول ، والخزائنُ جمع الخِزانة وهي ما يحفظ فيه نفائسُ الأموال لا غيرُ ، غلَب في العرف على ما للملوك والسلاطينِ من خزائن أرزاقِ الناس ، شُبِّهت مقدوراتُه تعالى الفائقةُ للحصر المندرجةُ تحت قدرتِه الشاملة في كونها مستورةً عن علوم العالمين ومصونةً عن وصول أيديهم مع كمال افتقارِهم إليها ورغبتِهم فيها ، وكونِها مهيأةً متأتّيةً لإيجاده وتكوينه ، بحيث متى تعلقت الإرادةُ بوجودها وُجدت بلا تأخر بنفائس الأموالِ المخزونةِ في الخزائن السلطانيةِ ، فذكرُ الخزائن على طريقة الاستعارةِ التخييلية { وَمَا نُنَزّلُهُ } أي ما نُوجِد وما نكوّن شيئاً من تلك الأشياء ملتبساً بشيء من الأشياء { إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي إلا ملتبساً بمقدار معينٍ تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المشيئةُ التابعة لها ، لا بما تقتضيه القدرةُ فإن ذلك غيرُ متناهٍ ، فإن تخصيصَ كل شيء بصفة معينةٍ وقدرٍ معين ووقتٍ محدود دون ما عدا ذلك ، مع استواء الكلِّ في الإمكان واستحقاقِ تعلّقِ القدرة به ، لا بد له من حكمة تقتضي اختصاصَ كلَ من ذلك بما اختص به ، وهذا البيانُ سرُّ عدمِ تكوينِ الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في خزائن القدرة ، وهو إما عطفٌ على مقدر أي ننزله وما ننزله الخ ، أو حالٌ مما سبق أي عندنا خزائنُ كل شيءٍ ، والحال أنا ما ننزِّله إلا بقدر معلوم ، فالأول لبيان سعةِ القدرةِ والثاني لبيان بالغِ الحِكمة ، وحيث كان إنشاءُ ذلك بطريق التفضّل من العالم العلويِّ إلى العالم السفلي كما في قوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج } وكان ذلك بطريق التدريج عبّر عنه بالتنزيل ، وصيغةُ المضارع للدلالة على الاستمرار .