فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله ، مع علمهم بذلك ، ولهذا قال تعالى { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر والمعاصي ، لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة ، فالموت أكره شيء إليهم ، وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس ، حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب .
{ وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمينَ }
وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت ، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل والموت بهم حالّ ، ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل وهم به مكذّبون ، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقّا كما أخبر ، فهم يحذرون أن يتمنوا الموت خوفا أن يحلّ بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب ، كالذي :
حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ } الآية ، أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب ، فَأبَوْا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَدا بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ } أي لعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : { وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أبَدا } يقول : يا محمد ولن يتمنوه أبدا لأنهم يعلمون أنهم كاذبون ، ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي ، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وكانت اليهود أشدّ فرارا من الموت ، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا .
وأما قوله : { بِمَا قَدَمَتْ أيْدِيهِمْ } فإنه يعني به بما أسلفته أيديهم . وإنما ذلك مثل على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها ، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرّها أو جناية جناها فيعاقب عليها : نالك هذا بما جنت يداك ، وبما كسبت يداك ، وبما قدمت يداك فتضيف ذلك إلى اليد ، ولعلّ الجناية التي جناها فاستحقّ عليها العقوبة كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد .
قال : وإنما قيل ذلك بإضافته إلى اليد لأن عظم جنايات الناس بأيديهم ، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى أيديهم حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده إلى أنها عقوبة على ما جنته يده فلذلك قال جل ثناؤه للعرب : { ولَنْ يَتَمَنّوْهُ أبَدا بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ } يعني به : ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم من حياتهم من كفرهم بالله في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، ويعلمون أنه نبيّ مبعوث . فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم وأضمرته أنفسهم ونطقت به ألسنتهم من حسد محمد صلى الله عليه وسلم ، والبغي عليه ، وتكذيبه ، وجحود رسالته إلى أيديهم ، وأنه مما قدمته أيديهم ، لعِلمَ العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها ، إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها . وروي عن ابن عباس في ذلك ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ } يقول : بما أسلفت أيديهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : { بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ } قال : إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيّ فكتموه .
وأما قوله : { واللّهُ عَلِيم بالظالِمِينَ } فإنه يعني جل ثناؤه : والله ذو علم بظَلَمَةِ بني آدم : يهودِها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها ، وما يعملون . وظلم اليهود كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه ، وجحودهم نبوّته وهم عالمون أنه نبيّ الله ورسوله إليهم . وقد دللنا على معنى الظالم فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }( 95 )
ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه ، و { أبداً } ظرف زمان وإذا كانت «ما » بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره قدمته ، وإذا كانت مع قدمت بمثابة المصدر غنيت عن الضمير ، هذا قول سيبويه ، والأخفش يرى الضمير في المصدرية ، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر إنما هو بيديه ، فحمل جميع الأشياء على ذلك .
وقوله تعالى : { والله عليم بالظالمين } ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد( {[975]} ) ، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم ، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد .
وجملة { ولن يتمنوه أبداً } إلى آخره معترضة بين جملة { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } وبين جملة { قل من كان عدواً لجبريل } [ البقرة : 97 ] والكلام موجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إعلاماً لهم ليزدادوا يقيناً وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم .
قوله : { بما قدمت أيديهم } يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] وقولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] ثم يعترفون بأنهم اجترأوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياماً معدودة ولذلك يخافون الموت فراراً من العذاب .
والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام ، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازاً كما في قوله :
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل . وقيل : أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدي عظيم .
وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي .
وقوله : { والله عليم بالظالمين } خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير :
وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبيء صلى الله عليه وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية . ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله : { إلا أماني } [ البقرة : 78 ] أن الأمنية ما يقدر في القلب . وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية . وهي أيضاً من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية ، ويفيد بذلك إعجازاً عاماً على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله . على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهودياً تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة . وجملة { والله عليم بالظالمين } في موضع الحال من ضمير الرفع في { يتمنوه } أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت ، والمراد بالظالمين اليهود فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم .