السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَن يَتَمَنَّوۡهُ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (95)

{ ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم } من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان ، ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة كما هنا وعن القدرة أخرى كما في قوله تعالى : { يد الله فوق أيديهم } ( الفتح ، 10 ) وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان أخبر به كقوله تعالى : { ولن تفعلوا } ( البقرة ، 24 ) .

فإن قلت : من أعلمك أنهم لم يتمنوا ؟ أجيب : بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولي المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل ذلك .

فإن قيل : التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا ؟ أجيب : بأنّ التمني ليس من أعمال القلوب إنما هو قول الإنسان بلسانه : ليت لي كذا ، فإذا قاله قالوا : تمنى . وليت كلمة تمنّ ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا : قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك .

فإن قيل : لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدقون أجيب : بأنه كم حكي عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب الصرف ولم يبالوا فكيف يمنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وأخبارهم عن ضمائرهم وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كذباً لأنه أمر خفي لا سبيل إلى الاطلاع عليه { والله عليم بالظالمين } أي : الكافرين فيجازيهم في ذلك فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ونفيه عمن هو لهم .