قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي : صفتها ، { فيها أنهار من ماء غير آسن } آجن متغير منتن ، قرأ ابن كثير { أسن } بالقصر ، والآخرون بالمد ، وهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسناً ، وآحن وأسن يأسن ، وأجن يأجن ، أسوناً وأجوناً ، إذا تغير ، { وأنهار من خمر لذة } لذيذة . { للشاربين } لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي ، { وأنهار من عسل مصفىً } أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، أنبأنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر ، عن عبد الله بن عمر ، عن حبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة } . قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . { ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار } أي : من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ، { وسقوا ماءً حميماً } شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا دنا منهم يشوي وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم { ف } إذا شربوه ، { فقطع أمعاءهم } فخرجت من أدبارهم ، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي .
{ 15 } { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }
أي : مثل الجنة التي أعدها الله لعباده ، الذين اتقوا سخطه ، واتبعوا رضوانه ، أي : نعتها وصفتها الجميلة .
{ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أي : غير متغير ، لا بوخم ولا بريح منتنة ، ولا بمرارة ، ولا بكدورة ، بل هو أعذب المياه وأصفاها ، وأطيبها ريحا ، وألذها شربا .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بحموضة ولا غيرها ، { وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي : يلتذ به شاربه لذة عظيمة ، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس ، ويغول العقل .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } من شمعه ، وسائر أوساخه .
{ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } من نخيل ، وعنب ، وتفاح ، ورمان ، وأترج ، وتين ، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا ، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم .
ثم قال : { وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } يزول بها عنهم المرهوب ، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها ، وتضاعف عذابها ، { وَسُقُوا } فيها { مَاءً حَمِيمًا } أي : حارا جدا ، { فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }
القول في تأويل قوله تعالى : { مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : صفة الجنة التي وعدها المتقون ، وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه فِيهَا أنهَارٌ مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي : ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح ، يقال منه : قد أَسِنَ ماء هذه البئر : إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت ، فهو يأْسَن أَسَنا ، وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة : قد أَسِن فهو يأْسَن . وأما إذا أَجَن الماء وتغير ، فإنه يقال له : أسِن فهو يأسَن ، ويأسِن أسونا ، وماء آسن . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : فِيها أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ يقول : غير متغير .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال : من ماء غير مُنْتن .
حدثني عيسى بن عمرو ، قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدثنا مصعب بن سلام ، عن سعد بن طريف ، قال : سألت أبا إسحاق عن ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال : سألت عنها الحارث ، فحدثني أن الماء الذي غير آسن تسنيم ، قال : بلغني أنه لا تمسه يد ، وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل في فيه .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ لَبنٍ لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ يقول تعالى ذكره : وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع ، ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار ، فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ للشّارِبِينَ يقول : وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها . كما :
حدثني عيسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدثنا مصعب ، عن سعد بن طريف ، قال : سألت عنها الحارث ، فقال : لم تدسه المجوس ، ولم ينفخ فيه الشيطان ، ولم تؤذها شمس ، ولكنها فَوْحاء ، قال : قلت لعكرِمة : ما الفوحاء : قال : الصفراء . وكما :
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، في قوله : مِنْ لَبن لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ قال : لم يحلب ، وخُفِضت اللذّة على النعت للخمر ، ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز ، أو نصبا على يتلذّذ بها لذّة ، كما يقال : هذا لك هبة . كان جائزا فأما القراءة فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء عليها .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى يقول : وفيها أنهار من عسل قد صُفّي من القَذى ، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية ، وإنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلاً جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها ، فهو من أجل ذلك مصّفى ، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية ، لأنه كان في شمع فصُفي منه .
وقوله : ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ يقول تعالى ذكره : ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ يقول : وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا ، ثم تابوا منها ، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها .
وقوله : كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ يقول تعالى ذكره : أمّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا ، كمن هو خالد في النار . وابُتدىء الكلام بصفة الجنة ، فقيل : مثل الجنة التي وُعد المتقون ، ولم يقل : أمّن هو في الجنة . ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ . وإنما قيل ذلك كذلك ، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام ، ولدلالة قوله : كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ على معنى قوله : مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ .
وقوله : وَسُقُوا ماءً حَمِيما يقول تعالى ذكره : وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم . كما :
حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ ، قال : حدثنا حَيْوة بن شُريح الحِمصِيّ ، قال : حدثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، قال : ثني عبيد الله بن بشر ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : وَيُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ قال : «يُقَرّبُ إلَيْهِ فَيَتَكَرّهُهُ ، فإذَا أُدْنَى مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ ، فإذا شَرِبَ قَطّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ » . قال : يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيما ، فَقَطّعَ أمْعاءَهُمْ يقول الله عزّ وجلّ يَشْوِي الوُجُوهَ ، بِئْسَ الشّرَابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقا .
واختلف الناس في قوله تعالى : { مثل الجنة } الآية ، فقال النضر بن شميل وغيره : { مثل } معناه صفة ، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا ، وقال سيبويه : المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة . ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله : فيها كذا وكذا .
قال القاضي أبو محمد : والذي ساق أن يجعل { مثل } بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية ، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعاً على هذه الصورة وذلك هي { مثل الجنة } ومثالها ، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه يقول : { مثل الجنة } ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف . وقرأ علي بن أبي طالب : «مثال الجنة » . وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً وابن عباس : «أمثال الجنة » . وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله : { كمن هو خالد } حذف تقديره : أساكن هذه ، أو تقديره : أهؤلاء إشارة إلى المتقين ، ويحتمل عندي أيضاً أن يكون الحذف في صدر الآية . كأنه قال : أمثل أهل الجنة { كمن هو خالد } ، ويكون قوله : { مثل } مستفهماً عنه بغير ألف الاستفهام ، فالمعنى : أمثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف { كمن هو خالد في النار } فتكون الكاف في قوله : { كمن } مؤكدة في التشبيه ، ويجيء قوله : { فيها أنهار } في موضع الحال على هذا التأويل . { وما غير آسن } معناه غير متغير ، قاله ابن عباس وقتادة ، وسواء أنتن أو لم ينتن ، يقال : أسَن الماء : بفتح السين ، وأسِن بكسرها .
وقرأ جمهور القراء : «آسِن » على وزن فاعل . وقرأ ابن كثير : «أسن » ، على وزن فعل ، وهي قراءة أهل مكة ، والأسن أيضاً هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء ، ومنه قول الشاعر :
التارك القرن مصراً أنامله . . . يميل في الرمح ميل المائح الأسن{[10362]}
وقال الأخفش : { آسن } لغة : والمعنى الإخبار به عن الحال ، ومن قال : «آسِن » على وزن فاعل ، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية .
وقرأت فرقة : «غير يسن » ، بالياء . قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمزة ، قال أبو حاتم عن عوف : كذلك كانت في المصحف : «يسن » ، فغيرها الحجاج .
وقوله : في اللبن { لم يتغير طعمه } نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله : { لذة للشاربين } جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره و { لذة } نعت على النسب ، أي ذات لذة . وتصفية العسل مذهبة لبوسته وضرره . وقوله : { من كل الثمرات } أي من هذه الأنواع ، لكنها بعيدة الشبه ، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه . وقوله : { ومغفرة من ربهم } معناه : وتنعيم أعطته المغفرة وسببته ، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة ، وقوله : { وسقوا } الضمير عائد على «مَنْ » لأن المراد به جمع .